يعيد العاملون السوريون بناء المناطق التي تهدمت بفعل الانفجار الذي حصل ببيروت، حيث يصلح كل منهم نافذة واحدة كل مرة، إذ بالرغم من أن السياسيين عبروا عن استيائهم وكراهيتهم لوجود السوريين وذلك لكونهم حسب زعمهم يرهقون البنية التحتية للبلاد، ويسرقون الأعمال والوظائف من يد اللبنانيين، ويعيشون على المعونات المخصصة بالأصل للبنانيين، إلا أن اللاجئين السوريين ظهروا في ساعة العسر بلبنان، وشرعوا ببناء النوافذ وإصلاح الأبواب وطلي البيوت والدور واستبدال ما انكسر من زجاج في المباني السكنية الشاهقة التي يعود بعضها للبنانيين لطالما طالبوا اللاجئين بالرحيل عن بلادهم.
ومقابل كل الجهود العضلية التي يقدمونها، لا يحصل هؤلاء اللاجئون سوى على أجر زهيد هبطت قيمته بالأصل بسبب هبوط سعر صرف الليرة اللبنانية التي خسرت 80% من قيمتها قبل عام. إلا أن ما يزعج هؤلاء اللاجئين بشكل أكبر هو انعدام الاحترام بشكل مستمر تجاههم، إذ من الصعب أن يتذكر اللبنانيون ما قدمه اللاجئون من جهود لإحياء بيروت وإعادة أمجادها السابقة إليها وذلك عندما ستروى قصة عودة المدينة إلى سابق عهدها.
فبعد مرور ثلاثة أشهر تقريباً على انفجار آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم التي تم تخزينها بشكل غير آمن في مرفأ بيروت ما أدى إلى تدمير الكثير من الأحياء التي يؤمها الأهالي والسياح وتحول جزء كبير من المدينة إلى خرائب، لم يقدم المجتمع الدولي حتى الآن سوى مساعدات عاجلة محدودة، وهي تشمل المساعدات الأساسية اللازمة للسكن، إذ تقول ليزا أبو خالد، وهي الناطقة باسم وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة التي تقوم بإدارة الاستجابة الإنسانية لعدة شركاء دوليين ومحليين: "إن أعمال إعادة تأهيل المأوى والسكن هي آخر خطوة ضمن استجابة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. ففي الوقت الذي تعترف فيه المفوضية بالأضرار التي خلفها التفجير على المشاريع التجارية والتحديات التي يواجهها أصحاب الأعمال، تركز الاستجابة الحالة للمفوضية على ضمان حصول الناس على ظروف عيش آمنة، لاسيما قبل حلول فصل الشتاء". حيث قدمت تلك الوكالة الدولية 6500 من المعدات المقاومة للظروف الجوية، و600 دولار نقداً كمساعدة لأكثر من ألف أسرة (حوالي أربعة آلاف شخص)، وتسعى المفوضية لزيادة ما قدمته بعشرة أضعاف أخرى. أما الحكومة الأميركية فقد قدمت المساعدات الطبية والغذائية عبر الوكالات في حين قدم الألمان الدعم لمطعم للحساء ووعدوا بإرسال مليون يورو لسوق الفلاحين، إذ يقول الناطق الرسمي باسم وكالة التنمية الألمانية GIZ: "إن عملية إعادة بناء هذا السوق تضمن فتح أبواب الرزق أمام نحو 100 شخص من أصحاب الحيازات الصغيرة".
إلا أن كل هذه الجهود الكبيرة والموجهة بشكل صحيح ماتزال بعيدة كل البعد عما هو مطلوب لإعادة بناء المدينة وإحيائها، إذ تقدر الأمم المتحدة بأن ما يقارب من 219 ألف شخص يعيشون في 73 ألف وحدة سكنية ضمن 9100 مبنىً قد تضرروا بسبب الانفجار، ولم يحصل أي منهم على أية مساعدة من قبل الحكومة، بينما ينتظر معظمهم الحصول على مساعدة ودعم من قبل الوكالات الدولية ليقوموا بإعادة بناء دورهم ومحالهم التجارية.
وذكر مصدر دبلوماسي رفيع لمجلة فورين بوليسي بأن المجتمع الدولي بقيادة فرنسا يبحث حالياً عن شركاء محتملين لينسق معهم مشاريع إعادة الإعمار الكبرى. وكما هي الحال في معظم الدول الأخرى، حيث تكون الحكومة هي المدير الأكبر المسؤول أمام الشعب، فقد تم توجيه المساعدات عبر الحكومة اللبنانية، إلا أن الشعب اللبناني فقد الثقة في النخبة السياسية فلم يعد يرغب بتوجيه المساعدات أو الاستثمارات من خلالها، وهذا ما عبر عنه هذا الدبلوماسي بالقول: "لتمويل المرحلة التالية من عملية إعادة الإعمار، لابد من وجود كيان أهلي يصادق عليه شخص في السلطة، وأخشى ما أخشاه أن يتمثل هذا الكيان بالحكومة الحالية، ولكن في الوقت ذاته لا يمكننا أن نفكر بأي جهة سواها، بالرغم من أن البنك الدولي يعمل على إيجاد آليات بديلة ممكنة، غير أنَّ المجتمع الدولي يريد بالطبع نشطاء سياسيين من المجتمع المدني حتى يصبحوا شركاء في ذلك الكيان".
وإضافة إلى ذلك، يرتبط التمويل الدولي المخصص للمرحلة القادمة من عملية إعادة الإعمار بالإصلاحات التي طلبت من الحكومة ولكن بشكل غاية في التعقيد، فسعد الحريري الذي عاد ليشغل منصب رئيس الوزراء في الأسبوع المنصرم قد وعد بكشف النقاب عن تلك الإصلاحات، لكنه لم يقم حتى الآن بتشكيل حكومته، ولم ترد تفاصيل أخرى حول هذا الموضوع حتى اللحظة.
وفي الوقت الذي تتصارع فيه النخبة السياسية على الوزارات يندفع المجتمع الدولي لتقديم المساعدات، ونرى العمال السوريين في الشوارع، فقد أثبت هؤلاء أنهم الأجدر بالثقة مقارنة بملاك البيوت وأصحاب الأعمال الذين شرعوا بمفردهم بإصلاح ما تدمر من ممتلكاتهم وعقاراتهم ولكن بشيء بطيء.
فقد مات كثير من السوريين أيضاً في تلك الكارثة مخلفين وراءهم عائلات وأسراً ضاقت بها الحال، إذ قتل 40 سورياً على الأقل في ذلك التفجير، وجرح المئات، ومايزال ثمانية منهم في المشافي. فقد لقي أيمن الحمصي وهو عامل توصيل طلبات لدى مطعم مصرعه بسبب شظية زجاج كبيرة أثناء قيادته لمركبته في أحد شوارع منطقة الجميزة. وذكر عمه أكرم الحمصي الذي يعاني من أمراض وعلل مزمنة بأن أيمن كان المعيل الوحيد للعائلة، حيث كان يصرف على أولاد أكرم الخمسة، وعلى والديه في سوريا، وكذلك زوجته التي اقترن بها منذ مدة قريبة، ويختم أكرم حديثه عن أيمن بالقول: "اضطرت ابنتي البالغة من العمر 13 عاماً للعمل في مشغل خياطة حتى تعيلنا".
لقد تدهورت الظروف المعيشية للسوريين في لبنان بالتزامن من تدهور أوضاع مضيفيهم، ولكن بما أنهم يحتلون المرتبة الدنيا ضمن السلم الاجتماعي، لذا فقد قذفتهم تلك المرتبة بشكل أقوى وأعنف بعيداً، إذ كشفت دراسة نشرت حديثاً أجرتها منظمة العمل الدولية بأن السوريين وصلوا إلى أسوأ وضع خلال مرحلة الإغلاق بسبب تفشي فيروس كورونا أيضاً، إذ تم تسريح 60% من السوريين الذين شاركوا في الاستبيان الخاص بتلك الدراسة من أعمالهم ووظائفهم خلال فترة الحجر والإغلاق، كما كشفت الدراسة عن وجود نسبة تسريح أعلى بين صفوف العاملين لحسابهم الشخصي.
أي أن كثيرين من أمثال أكرم وجدوا أنفسهم عالقين بين الشيطان وبين البحر، أي بين اللبنانيين الذين يتمنون رحيلهم، وبين نظام بشار الأسد الذي يحرمهم من العودة بعد فرض تكاليف باهظة عليهم، وهذا ما عبر عنه أكرم بالقول: "إن العودة تكلف كل شخص إجراء تحليل PCR (من أجل كوفيد-19) ورسم دخول إلى سوريا بقيمة 100 دولار، بالإضافة إلى أجور النقل، وبما أن عددنا ستة، لذا فإن عودتنا ستكلفني ثروة طائلة".
ويخشى الناشطون أن يتراجع الدخل المتواضع الذي يحصل عليه حوالي 200 ألف سوري يعيشون في العاصمة اللبنانية بشكل حاد بعدما أفرغ هذا الانفجار جيوب اللبنانيين وأحدث فجوة في نفقاتهم ومداخليهم، فبحسب ما أوردته المفوضية العليا للاجئين قفزت نسبة اللاجئين الذين يعيشون في فقر مدقع من 55% إلى 80% خلال الأشهر الأخيرة.
شرع عبد اللطيف بطلاء البيوت في شارع جعيتاوي، وهي منطقة أخرى تقع شرق بيروت طالها الكثير بسبب الانفجار. فقد تعرض منزل هذا الرجل في دير الزور بسوريا إلى التدمير بسبب قصف النظام، وفي الوقت الذي ظن فيه أنه وجد الأمان في لبنان، حطم انفجار المرفأ أبواب وشبابيك منزله الذي استأجره في الكارانتينا وهي منطقة قريبة جداً من المرفأ. وهكذا أحس عبد اللطيف بأنه خسر بيته مجدداً، فهو يتقاضى 45 ألف ليرة لبنانية باليوم الواحد، أي ما يعادل 30 دولاراً قبل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، أما اليوم فبالكاد يصل هذا المبلغ إلى 5 أو 6 دولارات، ولهذا يخبرنا أنه لا يحصّل ما يكفي ليعيد بناء بيته في سوريا، إلا أنه يجد العزاء لنفسه بطلاء بيوت مضيفيه، إذ يقول: "في هذا الوقت لا يهم كم يدفع اللبنانيون لنا، إذ يكفي أن يقوم صاحب البيت اللبناني بإصلاح البيت الذي نعيش فيه".
ولكن بعض اللبنانيين يرون في الأعمال الشاقة التي يمارسها السوريون أمراً مفروغاً منه، إذ يعتبرون الأمر مجرد صفقة. فقد ذكر مدير حانة كانت من بين الحانات القليلة التي تم ترميمها وفتح أبوابها وذلك بفضل التبرعات التي وصلت عبر الشابكة وبفضل ساعات العمل الطويلة من قبل العمال السوريين بأن السوريين لطالما عملوا في البناء في لبنان وبأن ذلك أتى لصالحهم، ويختتم ذلك بالقول: "إنهم يحصلون على أجر مقابل ذلك، ولهذا يقومون به".
فيما يرى ناصر ياسين وهو أستاذ في الجامعة الأميركية ببيروت ومحلل سياسي بأنه بالرغم من أن اللاجئين يرفدون الاقتصاد اللبناني بإنتاجهم وهم على أهبة الاستعداد دوماً لتقديم كل ما لديهم من مهارات بوسعهم أن يقدموها، إلا أنه من غير المحتمل أن تتغير فكرة الرأي العام عنهم، إذ يقول: "إن من ينسج القصص المعادية للاجئين هم السياسيون الشعبويون، ولن يكف هؤلاء عن إبراز ورقة معاداة اللاجئين حتى لو قام اللاجئون بإعادة بناء ما تدمر من البيوت".
أي أنه لا شيء غريب بكل تأكيد فيما عبر عنه مدير الحانة من أفكار وآراء، بل إن تلك الأفكار شائعة ومتداولة في بيروت، إذ يعتبر التمييز محطة يومية في حياة السوريين، إلا أن الجذور الخفية لهذه العداوة سياسية، فقد ارتبط مصير لبنان على الدوام بمصير الجارة سوريا، إلا أن الرقم القياسي للدسائس التي دبرتها حكومات سوريا للسيطرة على لبنان، وذلك عبر نشر قوات على الأرض خلال سبعينيات القرن الماضي، ودعم مؤيدي التوحد ضمن سوريا الكبرى، وبسط نفوذها عبر حليفها حزب الله، أثار حفيظة وغضب الكثير من اللبنانيين. ثم إن الحرب السورية تسببت بنزوح مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، مما زاد من توتر العلاقات بين البلدين، وهذا ما عبر عنه مدير الحانة بالقول: "النظام السوري هو ما نقف ضده، لأنه يتعاون مع قوى في الداخل اللبناني على تدمير البلد".
وهنالك أمل بأن يتيح انفجار بيروت للجيران إعادة تشكيل فهم جديد تجاه بعضهم البعض، فقد كان محمد أحمد وهو بناء مشغول بإعادة ترميم أحد الأعمدة ضمن أحد المنازل الذي تم تصميم ديكوره بطريقة فنية ويقع هذا المنزل بالقرب من المرفأ وذلك قبل دقائق من وقوع الانفجار، ما دفعه للنجاة بروحه، إلا أن الانفجار أثار في نفسه ذكريات مؤلمة ما فتئت تلازمه، إذ يقول: "أحسست وكأني في سوريا، فبيروت تشبه أي مدينة سورية تعرضت للقصف والتدمير، وقد خبرت ذلك الإحساس الذي ينتاب المرء عندما يفقد الحي الذي يعيش فيه".
المصدر: فورين بوليسي