تشهد العاصمة السورية دمشق انقساما على مستوى أنماط المعيشة بين طبقتين الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض، طبقة منهم تعاني من كل ضروب الفقر والعوز والعطالة والمرض وطبقة أخرى تعيش أرغد الحيوات التي قد تحظى بها طبقة اجتماعية تاريخياً.
فما أوجه هذا الانقسام الطبقي؟ وما مدى اتساع تلك الهوة التي تفصل بين أبناء المدينة الواحدة؟ ومن هم أبطال/أرذال تلك الطبقة المتخمة التي ضاق السوريون ذرعاً من رؤية إسفافها اليومي بينما يصطفّ الشعب في طوابير متنوّعة الأغراض موحّدة الإذلال والتشفّي والإنهاك؟
كوكب دمشقيّ خاص لتجّار الحرب
يعدّ مطعم مارنيللو، في دمشق حيّ المالكي، بمثابة قبلة لبعض الزبائن من الشرائح السورية التي لم تؤثّر الحرب على مداخيلها، أو لتلك الطبقات التي نمت ثروتها مع توسّع رقعة الحرب السورية، كما ويعتبر المطعم من المطاعم القليلة التي لم تتأثّر أسعار المأكولات والمشروبات التي يقدّمها بالانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ عقدٍ من الزمن، فبحسب طارق (27 عاماً) شاب جامعي عملَ كنادل في مارنيللو لعدّة سنوات؛ نجد أنّ سعر البيتزا العائلية لدى المطعم قد وصل إلى 18000 ل.س تماشياً مع انهيار الليرة، بينما يقدّم المطعم وجبة الكريسبي بسعر 16500 ليرة.
واللافت في زوّار مارنيللو، ومعظمهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والعشرين عاماً، أنّهم لا يزالون إلى اليوم محافظين على طقوسهم في المأكل والمشرَب لا سيّما الوجبات الغربية والعربية الفاخرة والمشاريب الكحولية المعتّقة؛ فيقول طارق لموقع تلفزيون سوريا:
"كانت طاولات المطعم تمتلئ منذ الصباح وحتّى آخر ساعات الليل؛ وغالباً ما كان يقصده شبّان وشابات يستقلّون سيّارات فخمة وحديثة الطراز ويرتدون أفخم الألبسة وأغلاها، ومنذ دخولهم وإلى حين خروجهم يطلبون عشرات الطلبات من كحول وأطعمة ومشاريب فاخرة لتتعدّى حسابات طاولاتهم أحياناً المئة ألف ليرة.".
اقرأ أيضا: شركة على صلة بأسماء الأسد تطلق أحدث أجهزة "آيفون"
ويشير طارق أيضاً إلى الإسراف والبذخ الذي تقوم بهِ مجموعة من السيّدات والرجال الذين يرتادون المطعم عند العشاء فيقول: "تراهم يرتدون أفضل الساعات ويدخّنون أجود أنواع الدخّان وأجهزتهم من أغلى الأجهزة وأحدثها، وعادةً ما يتركون بخشيشاً يعادل راتب الموظّف منّا؛ بالمختصر إنّهم كالذين يعيشون خارج البلاد لا يشتركون أو يشبهون الشعب السوري في شيء.".
ويضيف: "ولكنّهم يشبهون بعضهم البعض ويشتركون جميعاً في قدرتهم على إنفاق مئات الآلاف على المشاريب والأطعمة يومياً؛ فهم يرحلون ليعودوا في اليوم التالي ويعيدوا الكرّة وكأنّ أموالهم لا تنتهي.".
لم تكن الحرب وويلاتها كافية لإخماد صَخب الحياة التي تعيشها تلك الشرائح من المجتمع السوري، فهم بحسب مريم (اسم مستعار)، محاسبة في أحد بارات دمشق، خليط من الشبّيحة والشخصيات المتنفّذة وأبناء رجال الدولة ومن المشاهير الذين لا يبدون أيّ اهتمام يُذكر بما يجري حولهم، فتقول مريم:
" إنَّ من أبرز روّاد البار الذي عملت به كانَ محمّد الحلقي وشلّتهِ، وهو ابن رئيس مجلس الوزراء الأسبق وائل الحلقي، بالإضافة إلى بعض الممثّلين المشهورين كأندرية سكاف ومحمّد حداقي ويزن السيّد وجلال شمّوط ومهيار خضّور وغيرهم من الممثّلين، بالإضافة إلى شخصيات يبدو عليها أنّها نافذة في الأمن ويوصى لها من إدارة البار بوضع خاصّ يهتمّ بهِ المشتغلون في البار".
اقرأ أيضا: موالون يقارنون بين طوابير الخبز والوقود وطوابير آيفون12
وتؤكّد مريم على انسلاخ هذه الشريحة اللامبالية عن الوضع والواقع المعيشي في دمشق وعن معاناة الشريحة الاجتماعية الأوسع في البلاد، فتقول مستنكرةً: "أيّ أزمة اقتصادية تلك التي يتحدّثون عنها وأيّ حصار اقتصادي؟ حسب مشاهداتي في البار فإنّ إنفاق هذه الجماعات لم يتغيّر طوال سنوات الحرب السورية. إنّ ما يحدث هو حصار علينا لا عليهم."
على الجهة الأخرى
وفي الحين الذي تنمو به هذه الطبقة من الأثرياء، والتي يشار إليها باسم (أثرياء الحرب)، ثمّة على الشطر الآخر من المدينة مشاهد يومية من البؤس المعمّم والفقر المقذع تمتدّ لتصل إلى كلّ بيوت وشوارع العاصمة؛ فقد تحوّل، على مدار العقد الماضي، أبناء الطبقة المتوسّطة من الموظّفين والعاملين في القطّاعات العامّة والخاصّة إلى عوائل تعيش بالمجمل تحت خطّ الفقر؛ حيث يتراوح راتب الموظَّف بين 40 ألف ليرة و80 ألف ليرة أو ما يعادلها بالدولار بين 13 دولاراً و26 دولاراً بينما يُحَدَّدُ خطّ الفقر العالمي بنحو الدولارين للفرد الواحد يومياً أيْ ما يعادل 60 دولاراً أمريكياً في الشهر، وهو المبلغ الذي لا يستطيع الموظّفون والعاملون من السوريين تحصيل نصفه حتّى.
اقرأ أيضا: تيليغراف: المقربون من الأسد يحصلون بيرنغلز وآي فون ونتفليكس
ولكن تبقى هذه الطبقة، على الرغم من انخفاض القوّة الشرائية لأفرادها إلى ما دون خطّ الفقر، بأفضل حالٍ إذا ما قورنت بالطبقات المسحوقة متوسّعة النطاق في دمشق وريفها؛ وهي شريحة تشتمل على فئات النازحين والمُسْتَأْجِرِيْنَ والعاطلين عن العمل لأسباب قاهرة وغيرها من الفئات التي تعاني من أسوأ وضع معيشي يشهده العالم على الإطلاق، فيحكي باسل لموقع تلفزيون سوريا، وهو ناشط مدنيّ وموظَّف في منظّمة الهلال الأحمر في دمشق، عن تجربتهِ اليومية مع هذه الطبقة؛ فيقول: " يتجمّع الناس، وأغلبهم من النازحين، أمام باب المنظّمة أو المراكز التابعة لها منذ السادسة صباحاً وحتّى الخامسة مساءً بانتظار معاينة طبّية أو فحص ضروري أو سلّة غذائية لا تتجاوز قيمة محتواها 20 دولاراً. وعلى بعد عدّة أمتار، وفي بازارٍ مفتوح، يبيعون بعض أكياس الحمّص والعدس والأرز بأسعارٍ تنافسية لكي يغطّون بعض النفقات الضرورية."
ومن خلال مشاهداتهِ اليومية في عملهِ مع المنظّمة ونشاطه المدني يصف لنا باسل حال تلك الطبقة من المجتمع السوري بالقول: " لقد بلغنا منذ مطلع العام مستويات غير مسبوقة من الطلب على الاحتياجات الضرورية الصحّية والغذائية في المنظّمة؛ ففي منطقة الزاهرة وحدها (دمشق) هناك آلاف العائلات التي تناشد المنظّمة بشكل مستمرّ، فهم يعانون من الأمراض نتيجة لنقص حاد في مواد ومستلزمات التدفئة، ومن البطالة نتيجةً لتراكم الأزمات منذ كورونا وما تبعها إلى غاية الانهيار الأخير الذي شهدتهُ الليرة، فضلاً عن عيش العديد منهم في شقق غير مكسيّة وغير مخدّمة بالكهرباء والماء ممّا يضاعف معاناتهم."
إلا أنّ هذا التفاوت العظيم بين الطبقتين لا ينتهي عند حدود الأطعمة والمشروبات ومقوّمات العيش الأساسية؛ فهناك العديد من المظاهر الأخرى التي تبدو للسورين كمظاهر " مستفزّة " لما تعكسهُ من إسفاف لدى تلك الطبقات في تلبية شهواتها دون أخذ الحال التي وصلت إليه الطبقات المسحوقة بعين الاعتبار.
سيّارات براتب موظّف لـ900 سنة! .. والثياب الجديدة "لناس وناس"
لم يكن المزاد العلني لبيع السيّارات الذي أقيم في دمشق نهاية العام المنصرم سوى دليل قاطع على وجود طبقة منفصمة اجتماعياً واقتصادياً ومعنوياً عن المكابدة والبؤس الذي يطوّق السوريين منذ عشرة أعوام.
اقرأ أيضا: حيتان الأسد.. وجوه الفساد الاقتصادي في سوريا (1)
ففي حين تحذّر منظّمة الأممّ المتحدة من مواجهة السوريين أزمة غذاء غير مسبوقة مطلع العام 2021، وتؤكّد ممثّلة منظمة الصحّة العالمية أن أكثر من 90% من سكان سوريا يعيشون تحت خطّ الفقر؛ هناك من يشتري السيّارات في دمشق براتب موظّف لـ900 عام؛ حيث رَست سيّارة "رانج روفر" طراز 2018 على أحد المزاودين في مزاد دمشق لبيع السيّارات بسعر 765 ل.س.
ولسوء حظّ المنظّمين والمزاودين والمرخّصين لهذا المزاد، فقد تزامن الحدث مع حزمة عريضة من الأزمات لا سيّما أزمة المحروقات (مازوت، وبينزين) وأزمة الخبز وأزمة ندرة البضائع نتيجة انهيار الليرة وإضراب بعض التجّار واحتكارهم للبضائع، ما أدّى إلى تكشّفْ المزاد ومبيعاتهِ عن غضب عارمٍ عبّر عنه السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي.
أمّا عماد (اسم مستعار)، موظّف في مؤسّسة الكهرباء بإحدى مدن ريف دمشق منذ 25 عاماً، فيقول لموقع تلفزيون سوريا واصفاً أثر الحدث في نفسهِ: " كان الأمر مدعاة للسخرية ولكنّه كان أيضاً مدعاة للحزن والندم على السنوات التي ضاعت في الكدّ والتعب ليأتي نهاية مجموعة من الفاسدين وتجّار الحرب ليبذخوا أمامنا دون خجلٍ أو استيحاء أو احترام لمصاب البلاد والعباد."
اقرأ أيضا: سيارات بمليار لـ "أم تالا".. درع المعاقبين في وجه "قانون قيصر"
ويضيف عماد: " لقد كان بإمكان هذه المليارات أن تبني العشرات من محوّلات الكهرباء، أو أن تستورد الآلاف من أسطوانات الغاز، أو أن تؤوي العائلات المشرّدة، ولكن يبدو أنّ تجّار الحرب الذين يشترون تلك السيّارات هم الإرهابيون الحقيقيون."
وتكفي جولة واحدة في أسواق دمشق لتبيان المهمّة المستحيلة التي يواجهها السوريين إذا ما أرادوا شراء ألبسة جديدة لهم ولأطفالهم كما هي عادتهم في الأعياد وفي المواسم من كلّ سنة.
وهذه بعض الألبسة وأسعرها في أسواق دمشق:
جاكيت رجّالي بسعر 112 ألف ليرة سورية.
كنزة رجّالي بسعر 50 ألف ليرة سورية.
بنطال رجّالي بسعر 45 ألف ليرة سورية.
كرافات/ربطة عنق رجّالي بسعر 100 ألف ليرة سورية.