icon
التغطية الحية

فن السخرية في التراث العربي

2024.10.21 | 14:51 دمشق

آخر تحديث: 21.10.2024 | 20:44 دمشق

545656
+A
حجم الخط
-A

لعل الكوميديا السوداء تعد من أبرز فواعل الحالة الإعلامية التي رافقت ثورات الربيع العربي وحققت رواجاً بارزاً ولامست هموم الشباب العربي وأثرت به، يساعدها بذلك تغول الإعلام البديل ممثلاً بوسائل التواصل الاجتماعي، فكثرت البرامج الساخرة وحققت نقلة كبيرة في أسلوب طرح القضايا بكل أنواعها من سياسية وثقافية واجتماعية، وعادة ما يلجأ للعرض الساخر لعدة أسباب منها الإمتاع وتقريب الفكرة إلى المستهدف وكذلك التملص من القيود السياسية والدينية والاجتماعية.

ولكن ماذا عن تاريخ الكوميديا السوداء في التراث العربي؟ وما هي جذوره وكيف تطور؟

من العصر الجاهلي إلى الأموي

لم يعرف العرب كما غيرهم من الشعوب مثل الإغريقيين والبابليين فنونا أدبية متنوعة غير الشعر والنثر لذلك كان إدراك شذرات الأدب الساخر في التراث العربي في الجاهلية والعصر الإسلامي أمر يكاد يكون معدوما، إلا من بعض الأبيات الشعرية التي تأتي في سياق قصائد طوال تلمح فيها هذه السخرية، وخصوصا في شعر الصعاليك كما في لامية الشنفرى التي يجسد فيها انتماءه لعالم الحيوانات بديلا عن قبيلته كنوع من التمرد على القانون القبلي وإظهار سلبياته التي جعلت عالم الحيوان أكثر ملائمة للتوأمة من العالم البشري:

أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم    فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لأمْيَلُ

وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ    وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

هُمُ الرَهطُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ    لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ

ففي هذه الأبيات يصل الشنفرى إلى منتهى السخرية والتهكم بأبناء قبيلته التي لم ترق إلى طباع الحيوانات من حفظ الأسرار وغياب التمايز الطبقي وعدم أخذ الجاني بجريرة غيره وغير ذلك من الأنظمة المجتمعية التي دفعته إلى الصعلكة، ولعل هذه القصيدة رائدة في مجال الاتكاء على عالم الحيوان لبث مشاعر السخط المتمرد على المجتمع البشري من قبل أن نعرف "كليلة ودمنة" لابن المقفع أو "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل.

وفي العصر الأموي تقدم هجائيات جرير والفرزدق صورة متبلورة أكثر في فن السخرية وجرير بالتحديد برع في هذه الفن، ، فهو الشاعر الذي جاء من فرع تميمي لم يكن ذا سيادة ووجاهة ومال، وكان كثيرا ما يتعرض للتنمر، فوجد بالهجاء الساخر أسلوب للدفاع عن النفس وتقديمه بتعابير سهلة العبارة قريبة المعاني، حتى تعلق في ذهن السامع وتؤثر به.

يقول في بائيته الشهيرة ساخراً من نساء بني نمير:

وَخَضراءِ المَغابِنِ مِن نُمَيرٍ    يَشينُ سَوادُ مَحجِرِها النِقابا

إِذا قامَت لِغَيرِ صَلاةِ وِترٍ    بُعَيدَ النَومِ أَنبَحَتِ الكِلابا

إِذا حَلَّت نِساءُ بَني نُمَيرٍ    عَلى تِبراكَ خَبَّثَتِ التُرابا

وَلَو وُزِنَت حُلومُ بَني نُمَيرٍ    عَلى الميزانِ ما وَزَنَت ذُبابا

توهج فن السخرية في العصر العباسي

بعد أن نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي وتعرف العرب على فنون وآداب الشعوب الأخرى، أصبحت المجال الأدبي أكثر ثراء وبدأ يأخذ أبعاداً ممنهجة في كل غرض وأصبحت الكوميديا السوداء تتموضع في فصول مستقلة ولا تندرج في طيات الأغراض الأدبية الأخرى كما كان سابقا، وكان الفن الساخر يقدم بطريقتين الشعر والنثر، وإن كان النثر أكثر استيعاباً لهذه الفن وبرع به كتاب كثيرون انتقدوا به السياسة والمجتمع والدين وتناولوا مختلف نواحي الحياة اليومية للناس بهذا الأسلوب.

ففي الشعر مثلا كان دعبل الخزاعي (توفي 220 للهجرة)، رائداً في هذا المجال مدفوعا بسخط عارم تجاه الحكومة والمجتمع، ففي قصائده تتجلى السوداوية والحنق الذي يغلفه ويخفف من طغيانه بروح الفكاهة والسخرية، يقول في قصيدة يهجو بها الخليفة المعتصم:

مُلوكُ بَني العَبّاسِ في الكُتبِ سَبعَةٌ    وَلَم تَأتِنا عَن ثامِنٍ لَهُمُ كُتبُ

كَذَلِكَ أَهلُ الكَهفِ في الكَهفِ سَبعَةٌ    خِيارٌ إِذا عُدّوا وَثامِنُهُم كَلبُ

وَإِنّي لَأُعلي كَلبَهُم عَنكَ رِفَعَةً    لِأَنَّكَ ذو ذَنبٍ وَلَيسَ لَهُ ذَنبُ

ومرة أحب دعبل جارية سوداء اسمها غزال وحاول وصالها والنيل منها لكنها تمنعت وشتمته فما كان منه إلا أن يسخر منها بقصيدة يقول فيها:

 رَأَيــتُ غَـزالاً وَقَـد أَقـبَـلَت    فَـأَبـدَت لِعَـيـنَـيَّ عَـن مِبصَقَه

قُــصَــيَّرَةُ الخَــلقِ دَحــداحَــةٌ    تَدَحرَجُ في المَشيِ كَالبُندُقَه

كَــأَنَّ ذِراعــاً عَــلا كَــفَّهــا    إِذا حَــسَـرَت ذَنَـبُ المِـلعَـقَه

وَأَنــفٌ عَــلى وَجـهِهـا مُـلصَـقٌ    قَـصـيـرُ المَـناخِرِ كَالفُستُقَه

أما في مجال النثر، فلا تذكر السخرية إلا ويستحضر معها الجاحظ (توفي 255 للهجرة)، رائد عصره في هذا الفن، ويكفي لمن يقرأ كتاب "البخلاء" أو "الحيوان" حتى يجد أسلوباً يمزج فقد مزج الفكاهة بالجد، ويخلط بين الأسلوب البرهاني والتهكم المؤثر، في سياق يغلب عليه الاستطراد لكسر الرتابة وإبعاد الملل واستخدام عنصر المفاجئة والتشويق، باعثاً رسائل سياسية ومجتمعية تشبه إلى حد ما، البرامج الساخرة المنتشرة في الوقت الحالي، ولشدة فطنة الجاحظ وبراعته، ابتعد عن الابتذال والمباشرة في بث رسائل الخفية وهدفه الجاد المختبئ خلف السطور، بل اعتمد على أسلوب تغييب الغاية من الكتابة وترك التأثير يلعب في مساحة اللاشعور عند القارئ، ، فمثلا كان كتابه "البخلاء" نقداً ساخراً لصفة البخل التي تميز بها الأعاجم وطغت على كبار الدولة العباسية منهم، وبالفعل بعد انتشار الكتاب أصبحت هذه الصفة كأنها سبة، وصار كبار الوزراء والقادة الأعاجم في الدولة العباسية يكثرون من بذل المال لإخفاء هذا الطبع الذي بحسب الجاحظ هو متأصل في نفوس أهالي خراسان ومرو وغيرها من مدن الدولة الفارسية المنصرمة.

فن نثري يعد مبتكراً في مجال السخرية والنقد شهده العصر العباسي، ألا وهو المقامات التي ابتدعها بديع الزمان الهمداني (توفي 398 للهجرة)، والمقامة عبارة عن قصة مسجوعة تعالج مشكلة اجتماعية معينة يرويها بطل لها يشرح مغامرته على لسان المؤلف، فالبطل عند الهمداني هو عيسى بن هشام، ذلك الاسم الذي يتخفى وراءه الهمداني لنقد عيباً مجتمعياً مثل الكدية والاحتيال والغش، بأسلوب فكاهي ساخر يجمع بين جمال السرد وعذوبة اللفظ وسمو الهدف وعمق الفكرة، فمثلا في المقامة البغدادية يعالج موضوع احتيال أهل البلد على الغرباء، وفي المقامة الحرزية يعالج موضوع استخدام الدجل والشعوذة لتحصيل المال، وعلى ذلك قس بقية المقامات.

وهكذا ظل الأدب والفن الساخر يتطور من عصر إلى عصر، حتى الوصول إلى مسرح خيال الظل المعروف بكراكوز وعيواز في نهايات العصر العثماني، وكل ذلك مدفوع بترجمة التمرد البشري إلى فن أدبي ساخر يجعل من الحس الفكاهي سبيلا للتعبير عن الشكوى والسخط.