"إنَّ فنَّ الزخرفة العربيَّة يتطلَّع إلى أن يكون إعرابًا نمطيًّا عن مفهوم زخرفي، يَجْمَعُ بآنٍ واحد بين التجريد والوزن، وإنَّ معنى الطبيعة الموسيقية، ومعنى الهندسة العقلية، يُؤَلِّفَان دومًا العناصر المقوّمَة في هذا الفنِ"- روجيه جارودي، كاتب وفيلسوف فرنسي.
بعيداً عن رسم الأشخاص ومحاكاة الطبيعة، اتجه الفن العربي في العصور الإسلامية إلى عوالم جديدة ظهرت فيها عبقرية الفنان المسلم وذوقه الأصيل وخياله الخصب وحِسَّه المرهف، فكان من هذه العوالم عالم الزخرفة الذي يعدُ من أهم وسائل صناعة الجمال في الفن الإسلامي، وذلك من خلال التقاء شكل العمل الفني بمضمونه لِيُكَوِّنَا وَحدة متماسكة لِصُنْعِ الجمال- ظاهرًا وباطنًا، وهذا قلّما نجده في أنواع أخرى من الفنون.
خصائص ورمزية الزخرفة الإسلامية
استخدم التصميم الزخرفي العربي (الأرابيسك) في كل العصور الإسلامية تقريبًا ويمكن اعتباره عاملاً من عوامل التعايش الفني والوحدة في الفن الإسلامي حيث تناولت هذه الزخرفة القضايا الدينة مثل "الإيمان والنور ووجود الطبيعة والتواضع" وما إلى ذلك. كما اتخذت خصائص مميِّزة كان لها أثرٌ عظيمٌ في إبراز المظهر الحضاري لنهضة المسلمين. فقد ازدهرت بدرجة عالية، سواء من حيث تصميمها وإخراجها أو من حيث موضوعاتها وأساليبها، فأصبحت هي اللغة الموحدة في جميع الأعمال الفنية الإسلامية في أوقات مختلفة.
أبدع الحرفيون في صناعة النحت المسطَّح والغائر على الخشب أو الحجارة أو الرخام، ومهروا في استخدام الموادِّ الملوَّنة وإجادة النقوش. فاستخدموا خطوطًا زخرفية رائعة المظهر والتكوين، وجعلوا من المجموعات الزخرفيَّة نماذجَ انطلق فيها خيالهم إلى اللانهاية والتكرار والتجدُّد والتناوب والتشابك، وابتكروا المضلَّعَات النجمية وأشكال التوريق، وأشكال التوشح العربي الذي أطلق عليه الأوربيون لاحقاً (الأرابيسك Arabesque)، حيث لا يزال هذا النسق العربي في الزخرفة يحظى بالاهتمام في بلدان عديدة منذ ظهر لأوَّل مَرَّة في الزخرفة الفاطمية "مسجد الأزهر"، في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
فعلى الرغم من أن الزخرفة الإسلامية معروفة بأنها نوع بسيط من الفن، إلا أنها تتمتع بإمكانية كبيرة للإبداع وإنتاج تأثيرٍ مريحٍ وإبراز الجوهر العظيم للفن الإسلامي الرائع، وتعكس طابعه المسالم الذي يشجع الإبداع والفن الأصيل الجميل.
وتُعَدُّ العناصر النباتية، وكذلك العناصر الهندسية، مقوِّمَات أساسية في بناء هذا الفنِّ، حيث تتعاون مع بعضها تارة، وتنفرد كل منهما على حِدة تارة أخرى. وبناء على ذلك كان برز نوعان من الزخرفة: الزخرفة النباتية، والزخرفة الهندسية.
أنماط الزخرفة العربية- الإسلامية
تجسدت الزخرفة الإسلامية بنمطين أساسيين في كل أعمالها وهما " التوريق والتسطير" والمعرفة بالزخرفة "النباتية والهندسية". حيث سعى الفنان العربي في إظهار التناغم والتناظر من خلال أوراق النبات المختلفة والزهور المتنوَّعة، وأشكال وخطوط هندسية كثيرة استطاع صياغتها في أشكال فنية رائعة فظهرت المضلَّعات المختلفة، والأشكال النجمية، والدوائر المتداخلة بأشكالها المسدس والمثمن والمعشر، والمثلث، والمربع، والمخمَّس. لتتداخل هذه الأشكال مع بعضها وتملأ المساحات تاركةً بداخلها تنقل العين، من الجزء إلى الكل ومن الكل إلى الكل الأكبر، لتحقيق مزيدٍ من الجمال الرصين ولتعطي الناظر من خلال أشكالها المكررة وتشابكها وترتيبها مع بعضها في مجموعات معقدة، إحساساً بالروحانية والصفاء.
وهنا يمكننا القول بأن استخدام الفن التجريدي في الزخارف الإسلامية تعد أهم سمات تميزها، فقد استطاع الفنانون تجريد كل وحدة زخرفية، مثل تعديل الشكل الطبيعي للتصاميم النباتية للأزهار والأوراق إلى شكل جديد يعطي انطباعًا بالاستمرارية والخلود. وقد انتشر استعمال هذه الزخارف في تزيين الجدران والقباب، وفي التحف المختلفة (نحاسيَّة وزجاجية وخزفية...)، وتزيين صفحات الكتب وتجليدها.
أما الأشكال الهندسية المكررة والمتداخلة مع بعضها بشكل تناغمي أعطت للسطح أحادي البعد انطباعًا مرئيًا للناظر بأنه ثلاثي الأبعاد.
ومن أبرز العمليات الفنية في الزخرفة الإسلامية: الترصيع، التكفيت، التلبيس، التعشيق، التطعيم، التجصيص، القرنصة، التزويق، التصفيح، والتوشيع. حيث استخدم لصناعة هذا الفن التناغمي الهادئ على مواد مثل الرخام والجص والخشب والمعادن والآجُرّ والفسيفساء والقاشاني والخزف.
ولم يتوقف الفنان العربي عند هذا الحد من الإبداع وإنما سعى في البحث عن تكوين جديدٍ مبتكر يتولد من اشتباكات قواطع الزوايا أو مزاوجة الأشكال الهندسية؛ ليحقق مزيدًا من الجمال لهذا الفن الزخرفي. ومن أمثلة الأشكال الهندسية التي استعملها: الدوائر المتماسَّة والمتجاورة، والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة. كما تجلَّت الأشكال النجمية متعدِّدَة الأضلاع، والتي تُشَكِّلُ ما يُسَمَّى "الأطباق النجمية" في أبرز أنواع الزخارف الهندسية التي امتازت بها الفنون الزخرفية الإسلامية، واسْتُخْدِمَت في زخارف التُّحَفِ الخشبية والمعدنية، وفي الصفحات المُذَهَّبَة في المصاحف والكتب، وفي زخارف السقوف.
الكتابة الزخرفية
أبدع الفنان في تلك العصور عندما خرج من فن الخط وتجميله وتحسينه بأشكالها المعروفة (النسخي والثلث والرقعة والديواني والتعليق والإجازة والكوفي)، فجعل الحرف نفسه مادة زخرفية، لتتحوّل الخطوط إلى لوحات جمالية زخرفية، واستطاع الحرف أن يحمل مهمتين في آن واحد؛ المهمة التعبيرية والمهمة الزخرفية.
ولم يقتصر هذا الاتجاه على نوع واحد من الزخرفة، وإنما شمل الزخرفة النباتية والهندسية على حد سواء، فأصبح الحرف يتنازع في داخله من قبل عنصرين متماثلين، فتارة تكون الزخرفة في الحرف زينة ويبقى الحرف واضح المعالم، وتارة يغيب الحرف تمامًا ليصبح زينة زخرفية وذلك من خلال رسم الخط بزخارف هندسية أو نباتية تامة.
وبهذه الجمالية التعبيرية لعب الخط العربي دوراً هاماً في فن الزخرفة الإسلامية، فتم استخدام الزخارف الكتابية في تدوين آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والأقوال المأثورة، بأشكال زخرفية متنوعة داخل وخارج المساجد والمباني الدينية والسكنية، حتى أصبح في كثير من الأحيان يتجسد داخل لوحات فنية بشكل زخرفي. وتم تصميم فن الخط ودمجه أيضاً مع الفسيفساء والحجر والرخام واستخدمه فنان الخط في اللوحات الزخرفية.
بقي فن الأرابيسك خالدًا في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، محتفظاً بجماليته ويتقن رسم أدق التفاصيل في اللوحة الزخرفية، لدرجة أنه طغى على الفنون والعمارة الأوروبية وغزا أجزاء منها. كما تميز ذلك الفن بتفرده وقيمته الفنية العالية، حيث تشهد صالات المزادات العالمية من حين لآخر عرض قطع فنية قديمة نادرة من الإبداع العربي. ومع تطور العالم ودخول المعدات الليزرية في الصناعات الفنية، بقيت الأشكال والتصاميم الزخرفية على حالها ولكنها افتقدت إلى روح وإحساس الفنان الذي استخدم إزميل الخرط والمنشار والمنقار و"المفحار"، وغيرها من الأدوات التي رافقت هذه الحرفة منذ بداياتها، وبقيت القطع الزخرفية القديمة صامدة في المساجد والمباني والمنازل، ومتوارثة من جيل لآخر لتنقل لنا إحساساً مفعماً بالجمال ولنغوص معها إلى عبق التاريخ بمجرد وقوفنا أمامها.