لطالما سخر الناس من شكلي، ما حرمني ثقتي بنفسي، أما الآن فأواجه العشرات بوجه جميل وأسمع عشرات التعليقات عن وسامتي لذا لن أتخلى عن تعديل الصور.
تتناوب الأخبار التي تشرح أضرار الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، وعلى الرغم من ذلك يتوجّه العالم، أفراداً ومؤسسات، للتمسّك أكثر بهذه المنصات، كبديل عن العالم الحقيقي والواقعي، أو للعمل والتواصل في ظل تداعيات العزلة التي يعيشها العالم جرّاء "كورونا"، أو كونها مصدر رزق مغرٍ لكثيرين دون جهد يذكر.
ووفق الإحصائيات، بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العام السابق أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم، ومن المتوقع ازدياد عددهم بمقدار الثلث خلال سنوات قليلة مقبلة.
وضمن التحدّي في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، برز التنافس في استقطاب الجمهور الذي أبدى رغبة بمشاهد جديدة ومختلفة عما اعتاد مشاهدته سابقاً، فظهر استخدام ما يسمى "الفلاتر"، التي تمتلك القدرة على تجميل الواقع بضغطة واحدة.
"فلترة" الحياة إلى "حدّ الكمال"
لجأ آلاف الفتيات والشبان لاستخدام الفلاتر لإخفاء عيوب البشرة أو للتجميل السريع، وأبعد من ذلك أصبح الفلتر مجمّلاً اجتماعياً، حيث يعمد كثيرٌ من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً موقعي "سناب شات" و"إنستغرام"، إلى استخدام الفلاتر على مناظر طبيعية من تصويرهم، أو على فنجان قهوة في أحد المقاهي، في محاولة لـ "فلترة" حياتهم، أو ربما تزويرها.
تعتبر جودي أن "الفلاتر" تجمّل كل شيء، وتصل بها إلى "حد الكمال" الذي تسعى إليه، وتوضح أن الكاميرا في الهواتف ليست دقيقة، هي تشوّه الواقع من زوايا معينة، لذلك تستخدم الفلاتر لإضفاء الحيوية على البشرة ورسم الأنف وغيره".
تؤكد جودي في حديثها لموقع "تلفزيون سوريا" على أن "الفلاتر تجعلنا جميلات، كما أن الواقع ليس رائعاً، فلماذا لا نحسّنه إن استطعنا".
هل يُختزل الجمال بإشراقة البشرة؟
صلاح الدين لكه، اختصاصي نفسي ومدرب ومشرف في الصحة النفسية في منظمة "إحياء الأمل" السورية، وله دراسة غير منشورة اطلع عليها موقع "تلفزيون سوريا"، يقول فيها إنه "من المتفق عليه حاجة الإنسان ليكون مقبولاً، وتأتي في أهميتها كحاجته للانتماء والحاجة للحب والتقدير".
ويضيف "الإنسان يسعى بطبعه ليكون متماشياً مع السائد والمنتشر ولا يحب أن يكون وحيداً كما أنّه مفطور على حب الجمال بمعناه الواسع، فضلاً عن أثر التنشئة الاجتماعية ودور الإعلام القائم على تعزيز قيم الجمال والقوة، ما يدفع الفرد إلى تنمية هذه النزعات".
ولا يتفق كثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على استخدام "الفلاتر"، فالبعض يقبلها ويستخدمها، وآخرون يرفضون زيفها ويرفضون اختزال جمال الإنسان بشكله أو بإشراقة بشرته.
يقول كنان، وهو طالب في كلية الآداب بجامعة دمشق، إنه لن يتخلّى عن الفلاتر طالما بقيت موجودة، ويؤكد أنه استطاع تجاوز أزمات نفسية لطالما لاحقته ونغّصت عليه حياته بسبب شكله.
يوضح كنان "لطالما سخر الناس من شكلي، ما حرمني ثقتي بنفسي، أما الآن فأواجه العشرات بوجه جميل وأسمع عشرات التعليقات عن وسامتي، وهذا الشيء الذي لا أريد أن أخسره ولا أريد أن أخسر ثقتي بنفسي بعد اليوم".
من جهة أخرى، يؤكد كنان أنه ليس مضطراً لتصوير أكوام القمامة هنا وهناك كي أروي نستالوجيا المغتربين"، ويشير إلى أن "الصورة الناتجة بعد التنقية هي الواقع الذي أتمنى أن أعيشه، هادئ ومليء بالجمال والموسيقا".
"السوشيال ميديا" قاسية ومهيمنة
يفسر الاختصاصي النفسي صلاح الدين لكه الحالة التي يعيشها كنان بأن "وسائل التواصل الافتراضي مصممة بطريقة تشجع نمط العيش الإدماني والمهيمن على حياتنا، بل مصممة لتستنفذ الوقت والجهد والتركيز".
ويضيف أن "أبرز الأسباب التي تدفع كثيرين وكثيرات لاستخدام التعديلات على صورهم هي أن البشر أكثر نقداً وقسوة لذواتهم، فضلاً عن الغياب الجزئي على أحسن حال لقيم التراحم والتقبل على حساب قيم الكسب السريع في مجتمعاتنا والعالم".
ويشير الاختصاصي إلى إسهام بعض الاضطرابات النفسية، كاضطراب تشوه شكل الجسد في تعزيز هذه الحالة عند بعض الأفراد، مشدداً على أنه ليس بالضرورة أن جميع من يستخدم الفلاتر لديه اضطراب تشوه شكل الجسد.
لنتحرر من قوالب الجمال الجاهزة
في الطرف المقابل، يرى معظم من يرفضون استخدام "الفلاتر" أنّهم يتقبلون أنفسهم كما هم، تقول الصحفية علا الجاري "لا أستخدم هذه الفلاتر لوجهي لأنني مقتنعة أنه يمكنني مواجهة الناس على الشاشة بنفس الوجه الذي أخرج به إلى الشارع".
وتضيف علا "تشبه الفلاتر الأقنعة، نخفي خلفها حقيقة مشاعرنا أو ما نمر به في يومنا، ربما لنتجنب السؤال عن حالنا أو ما يشغلنا، ربما لا نريد أن يعرف الغرباء أننا حزينون أو متعبون"، مشيرة إلى أنها "في حالات أخرى يساعدنا الفلتر على إخفاء ما نظنه عيوباً أو تفاصيل لا نحبها في وجوهنا، لأننا نظن أن للجمال قوالب جاهزة نريد أن نشبهها قدر المستطاع".
تؤكد علا على أنه "كوني صانعة محتوى موجّه للنساء، أحاول أن أكون مثالاً للتقبل، وهذا ما رصدته من خلال تعليقات كثيرة تثني على جمالي الطبيعي، بالإضافة لتشجيعي على الاستمرار، لما له من أثر في دفع المتابعات ليكنّ أكثر تحرراً من معايير الجمال المفروضة ودافعاً لزيادة الثقة في النفس".
هوة بين الواقع والوهم
في العام 2019، أصدر موقع "ميدياكيكس" دراسة قالت أرقامها إن قرابة مئتي مليون شخص حول العالم يعانون من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وإن المراهقين الذين يمضون 5 ساعات يومياً على الهواتف المحمولة تتضاعف عوارض الاكتئاب لديهم.
كما أكد كثيرون عن شعورهم بالغيرة والحسد أثناء متابعتهم لمستخدمين آخرين يعرضون حياتهم "المثالية" على منصات التواصل، ما يدفعهم بشكل أو بآخر للإحساس بالعجز وعدم الكفاءة والإنجاز.
يقول صلاح الدين لكه إن الناشر "يعيش حالة من المقبولية الاجتماعية أقرب للمتوهمة منها للواقعية، كما تكون صورة الذات وعلى المدى الطويل معتمدة على الآخرين وتقييماتهم، ما يؤدي إلى اتساع الهوّة بين الواقع والوهم، أي المزيد من الأشخاص الذين سيعيشون في فقاعة فردية متوهمة بعيداً إلى حد ما عن المعاني والقيم الإنسانية المعاشة".
ويضيف "أما بالنسبة للمتلقي أو المتابع فلا بدّ أن كثيرين منهم سيواجهون مشاعر الحزن والأسى على الذات، من باب المقارنة مع الصوة المعدلة بالفلاتر".
وتشير عدة دراسات إلى أنَّ كثيراً من الأمراض النفسية كتغير المزاج، والغضب، والقلق والتوتر المستمر، والعزلة، سببها مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع عدة بلدان لاتخاذ إجراءات قانونية تحتّم على الناشرين توضيح استخدامهم ميزة "الفلتر" بتنويه لمشابه للمشاهد الصادمة أو ما ترفق برمز "+18".
حالياً يمتلك موقع "إنستغرام" وحده، على سبيل المثال لا الحصر، أكثر من مليار مشترك نشط شهرياً، و500 مليون مشترك يوزّعون أكثر من 4 مليارات إعجاب في اليوم الواحد، 39 % منهم لم يتجاوزا 35 عاماً، مع نمو قاعدة المستخدمين 300 % خلال العامين الماضيين فقط.
فهل تصمد صحتنا النفسية أمام طوفان هذه الأرقام؟!