لأول وهلة، معظم من شاهد صورة المُسنّة الدنماركية المُلتَقطة بعناية وهي تمدّ يدها لمصافحة سيدة غارقة في بكائها، لم يخطر في باله أن تكون تلك الصورة واقعية تحكي لحظة وداع تلك العجوز لجارتها اللاجئة السورية "أسماء الناطور" بعد أن قررت حكومة الدنمارك ترحيلها مع عائلتها إلى مناطق سيطرة النظام في دمشق.
بدموع وقلب ممزق ودعت اللاجئة السورية أسماء الناطور وزوجها، ابنهما وجيرانهما الدنماركيين بعد أن أجبرتهم السلطات الدنماركية على مغادرة منزلهم إلى "كامب الترحيل" بغية الضغط عليهم للعودة إلى "وطنهم" الذي يرزح تحت حكم النظام الذي فروا منه.
إحدى الصحفيات الدنماركيات التقطت صورة لأسماء وهي تذرف الدموع في أثناء وداعها إحدى جاراتها الدنماركيات ولاقت الصورة تفاعلاً واسعاً من رواد منصات التواصل الاجتماعي.
وبصوت متهدج يقطعه البكاء تتحدث أسماء لموقع تلفزيون سوريا عن اللحظات الأخيرة لوداعها ابنها وجيرانها وتقول: "فجأة كل شيء كنت أحلم به ضاع .. كنت أدرس في المرحلة الثانوية (البكالوريا) وأنوي إكمال دراستي".
وتضيف أسماء وهي أم لشابين عمرهما 21 عاماً و25 عاماً "أخبرونا بأن علينا أن ننسى ولدينا لأنهما قادران على الحياة من دوننا كونهما بالغين، وكأني أنجبتهما وربيتهما لأمنحهما للدنمارك.. بأي قانون يفرقون أباً وأماً عن أولادهما (..) أين الإنسانية والعدالة".
وقبل نحو ستة أعوام، وصلت أسماء (50 عاماً) وزوجها عمر (54 عاماً) الذي كان يعمل موظفاً في وزارة الزراعة مع ولديهما إلى الدنمارك، وبعد حصول الزوجين في تشرين الأول 2015 على "حماية إنسانية" في الدنمارك، أبلغتهم دائرة الهجرة بإعادة تقييم ملف إقامتهم في شهر تشرين الثاني الماضي، وأواخر شهر شباط الماضي أبلغتهم دائرة الهجرة بعدم إمكانية تجديد إقامتهم.
وتنحدر العائلة من مدينة طفس في محافظة درعا التي تعتبر مهد الثورة السورية لكنها كانت تقيم في مخيم اليرموك قرب العاصمة دمشق، وبعد دمار منزلهم في مخيم اليرموك بقصف من نظام الأسد هربوا إلى طفس ثم هربوا إلى الدنمارك.
وبحسب منشور للصحفية آن ليز مارستراند يورغنسن، تعرض ابنيهما للتعذيب في المدرسة لانتقادهم نظام الأسد، وعندما قصف منزل العائلة فروا إلى مخيم اليرموك جنوبي دمشق وسرعان ما حاصر ت قوات النظام المنطقة وانقطعت عن العالم الخارجي.
تمكنت أسماء وزوجها عمر من الفرار من البلاد، وكذلك فعل ابنهما الأكبر الذي فر من جيش الأسد، وكان الابن الأصغر قد اقترب من عمر الخدمة الإلزامية.
عبر الصحراء الجزائرية سارت العائلة لمدة 3 أيام، وهناك وفي طريقهم للسواحل الليبية تعرضوا للاعتداء والسرقة، ثم صعدوا على متن قارب مزدحم إلى أوروبا.
وتضيف أسماء التي كانت تعمل معلمة للغة العربية في سوريا: "تعلمت اللغة الدنماركية بسرعة ووصلت إلى مستوى متقدم وكنت أحلم بالمستقبل لكن الآن كل شيء ضاع ويجب أن نعود إلى سوريا التي هربنا من نظامها المجرم!".
وحصل عمر على رخصة قيادة شاحنة وفتح متجراً لبيع الخضار ، ويدرس الأبناء تكنولوجيا المعلومات.
"هربنا من ظلم الأسد إلى ظلم آخر"
"ودعت ابني وجيراني الدنماركيين قبل أن أغادر إلى كامب الترحيل.. جارتي التي انتشرت صورتي معها كانت مقربة كثيراً مني وكنب أزورها وأساعدها أنا وأبنائي بشكل مستمر كونها كبيرة في السن"، تقول اللاجئة السورية التي كانت تربطها علاقات جيدة جداً مع كثير من جيرانها الدنماركيين.
وتضيف أسماء: "جارتي كانت غاضبة وحزينة جداً في أثناء وداعنا وقالت لوسائل الإعلام إن (سوريا ليست آمنة وتريدون إرسالهم إلى الموت وهؤلاء هربوا من نظام الأسد المجرم)"، وتتابع اللاجئة السورية وهي من عائلة معروفة بمعارضتها للنظام السوري "هربنا من ظلم الأسد إلى ظلم آخر".
وتتابع "عندما زرت ابني أمس في البيت شعرت بأنه طفل صغير رغم أن عمره 21 عاماً"، وتضيف أسماء وهي تذرف الدموع: "عندما نظرت إلى عينيه شعرت وكأنه طفل لا يزال بحاجة لرعايتي.. كان موقفاً مؤلماً جداً".
وتشير أسماء إلى أن ابنها الآن مجبر على مغادرة المنزل وإيجاد منزل أصغر يناسبه خلال ثلاثة أشهر.
النقل إلى الكامب لحين البت بقرار الترحيل
قبل إجبار أسماء وزوجها على مغادرة منزلهم التقوا بموظفين من مكتب "العودة إلى الوطن" وعرضوا عليهم مبلغ 144 ألف كرون (حوالي 19 ألف يورو) للشخص الواحد إذا قرروا العودة إلى سوريا وأخبروهم بأن هناك قرار "طرد فوري" بحقهم، بحسب ما قالت اللاجئة السورية.
وأشارت أسماء إلى أنهم "أخبرونا بوجوب مغادرة المنزل خلال أسبوع وإلا فإن الشرطة ستتدخل وسندفع غرامة بحال رفضنا الإخلاء"، ولفت إلى ابنها بقي في المنزل لأن لديه تصريح إقامة أما ابنها الآخر فيسكن وحده في منزل آخر.
وأضافت اللاجئة السورية بأن قضيتها ما زالت قيد الدراسة بعد اعترض المحامي على قرار الترحيل لكن إدارة الهجرة أخبرتهم بأنهم يستطيعون الاستمرار بالإجراءات وهم في كامب "الترحيل".
كامب الترحيل.. غرف قذرة ووضع مزر
وتصف أسماء الوضع في كامب الترحيل بـ"المزري جداً" وتقول إن "الغرف قذرة جداً .. الوضع لا يطاق وكأننا نسكن في سجن".
وتقول أسماء إنها وزوجها يسكنان في غرفة واحد فيها سريران أما المطبخ والحمام فمشتركان مع باقي سكان الكامب"، مضيفة أنهم سيحصلون في الأسبوع على مبلغ قدره 124 كرون (ما يعادل 16 يورو).
"سكان الكامب من جنسيات مختلفة وبعضهم هنا منذ أكثر من 10 سنوات وأخاف أن أخرج من غرفتي ليلاً وسمعت أن هناك عائلات سورية أخرى فيه"، بحسب ما قالت أسماء.
ضغوط على اللاجئين
وخلال الأيام القليلة الماضية، بدأت السلطات الدنماركية بإجبار بعض اللاجئين السوريين الذين تم سحب إقامتهم على مغادرة منازلهم والسكن في كامب "الترحيل" بهدف الضغط عليهم للعودة إلى سوريا.
ومنذ نهاية حزيران من العام 2020، بدأت الدنمارك عملية واسعة النطاق لإعادة النظر في ملفات عدد من السوريين القادمين من محافظة دمشق وريفها على اعتبار أنّ "الوضع الراهن في دمشق لم يعد من شأنه تبرير (منح) تصريح إقامة أو تمديده"، بحسب السلطات الدنماركية.
وبحسب وسائل إعلام، تم سحب تصاريح الإقامة من أكثر من ألف لاجئ سوري من أصل 30 ألف لاجئ سوري يقيمون في الدنمارك ويتخوفون أيضاً من قرارات قد تطولهم في المستقبل في حال اعتبار مدن سورية أخرى "آمنة".
وخلال الفترة السابقة تظاهر مئات الأشخاص أمام مقر البرلمان الدنماركي في العاصمة كوبنهاغن، ضدّ قرارات الحكومة التي تهدف إلى إعادة السوريين القادمين من دمشق إلى وطنهم، وشاركت في التظاهرات منظمات مجتمع مدني دنماركية، منها "منظمة التعاون بين الناس" و"المنظمة الشبابية لمجلس اللاجئين الدنماركي" إلى جانب لاجئين سوريين مقيمين في الدنمارك.
وتعرضت السلطات الدنماركية لانتقادات على خلفية حرمانها لاجئين سوريين من تصاريح إقامة لاعتبار الوضع "آمناً" في دمشق، حيث قالت الأمم المتحدة إنّ ذلك "يفتقر إلى المبرر".
كما انتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إزالة الدنمارك تدابير الحماية للاجئين السوريين القادمين من دمشق وريفها، وشددت على أن "التقارير الخاطئة الخاصة ببلد اللاجئين الأصلي تؤدي إلى سياسات خاطئة بشأن اللاجئين".
وتتبع الدنمارك سياسة استقبال متشددة بهدف تحقيق "صفر طالب لجوء" ولم تصدر سوى تصاريح إقامة مؤقتة منذ عام 2015.