اتفقت تركيا والولايات المتحدة بعد اجتماع الآلية الاستراتيجية الثنائية، الذي عُقد في واشنطن هذا الشهر، على استئناف المشاورات بينهما حول مكافحة الإرهاب.
ومع أن هذه الخطوة لا تعني بالضرورة أن البلدين أصبح بمقدورهما بعد الآن معالجة إحدى أكبر القضايا الخلافية بينهما والمتمثلة بالعلاقة الأميركية بوحدات حماية الشعب الكردية السورية، إلآّ أن استئناف المشاورات يعكس تغييراً جزئياً في النهج الأميركي في مقاربة هذه القضية وتأثيرها على العلاقة مع تركيا عبر إيلاء أهمية أكبر للحوار مع أنقرة بشأن هواجسها من العلاقة الأميركية بالوحدات. منذ أن بدأت الولايات المتحدة بتأسيس شراكة مع الوحدات قبل منتصف العقد الماضي بذريعة الحاجة لها في الحرب على تنظيم داعش في سوريا، تسببت هذه الشراكة بضرر بالغ في العلاقات التركية الأميركية. ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن هذه الشراكة، التي كان من المفترض أنها مؤقتة وستنتهي بنهاية الحرب على داعش، ما تزال قائمة حتى الآن، بل لأنها أصبحت نقطة ارتكاز أساسية للوجود العسكري الأميركي في سوريا، فضلاً عن أنها مكنت الوحدات الكردية من تعزيز قوتها العسكرية وإنشاء إدارة ذاتية تعتبرها تركيا مُقدمة لتأسيس كيان انفصالي على حدودها الجنوبية.
ولم تقتصر أضرار هذه الشراكة على تقويض العلاقات الاستراتيجية التركية الأميركية فحسب، بل شكلت دافعاً إضافياً قوياً لتركيا لإحداث تحول كبير في سياستها السورية بعد النصف الثاني من العقد الماضي بدءًا بالتدخل العسكري المباشر في سوريا لإحباط مساعي الوحدات الكردية لربط مناطق سيطرتها بين شرق الفرات وغربه، ومن ثم انخراط أنقرة في شراكة مع روسيا وإيران ضمن منصة أستانة في عام 2017 وصولاً إلى دخولها في حوار مع النظام السوري قبل أكثر من عام. وكانت هذه التحولات التركية مُصممة بشكل أساسي كأداة ضغط إضافية على الولايات المتحدة للتخلي عن علاقتها بالوحدات الكردية. حقيقة أن البيئة المضطربة التي شهدتها العلاقات التركية الأميركية منذ النصف الثاني من العقد الماضي لأسباب مختلفة لا تقتصر فقط على ملف الوحدات الكردية، فاقمت من آثار هذه القضية على العلاقات وقوضت من قدرة البلدين على محاولة إدارة خلافاتهما في سوريا.
لذلك، فإنه حتى في الوقت الذي يبدو فيه الرهان على قدرة تركيا والولايات المتحدة على التوصل إلى حل شامل لملف الوحدات الكردية ضعيفاً، فإن البيئة الجديدة التي تُهيمن على العلاقات منذ موافقة الكونغرس الأميركي على صفقة بيع تركيا مقاتلات إف ستة عشر كنتيجة لمصادقة أنقرة على عضوية السويد في حلف الناتو، تخلق فرصة أمام البلدين لاستكشاف سبل التعاون في الملف السوري.
ومع أن البيان التركي الأميركي المشترك، الذي صدر بعد اجتماع واشنطن، لم يتطرّق بالتفصيل إلى الكيفية التي ستعمل فيها أنقرة وواشنطن على التعاون في ملف مكافحة الإرهاب باستثناء استئناف المشاورات بينهما، إلآّ أن الحاجة المشتركة إلى معالجة هذه الملف كبوابة لإعادة ترميم الشراكة التركية الأميركية على نطاق أوسع، أصبحت تحظى باهتمام أكبر في واشنطن.
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدفع الولايات المتحدة إلى الانفتاح على إجراء حوار مُعمق مع تركيا في ملف الوحدات الكردية:
ـ أولاً: بالنظر إلى أن الدعم الأميركي للوحدات الكردية يُشكل هاجساً كبيراً لتركيا التي تتعامل معه من منظور تهديد أمنها القومي، فإنه لم يعد بمقدور واشنطن تجاهل التفاوض مع أنقرة في هذا الملف إذا ما أرادت تحفيز تركيا على مواصلة المضي قدماً في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب. وهذا الأمر أصبح يحظى باهتمام كبير في واشنطن منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي عظمت القيمة الجيوسياسية لتركيا بالنسبة للغرب أكثر من أي وقت مضى. كما أن الاحتكاكات العسكرية بين البلدين في سوريا في الأشهر الأخيرة أظهرت مخاطر استمرار التجاهل الأميركي لهواجس تركيا من الوحدات الكردية. إن التصميم الذي تُظهره تركيا في مكافحة التهديد الذي تُشكله الوحدات الكردية ومشروعها الانفصالي على أمنها القومي أصبح يضغط بشكل متزايد على الخيارات الأميركية في سوريا.
- ثانياً، حقيقة أن التحديات الكبيرة التي تواجه الوجود العسكري الأميركي في سوريا بدأت تتصاعد في الآونة الأخيرة تُقوض قدرة واشنطن على الاحتفاظ بهذا الوجود لفترة غير معلومة.
ومع أن الولايات المتحدة لم تُظهر أي إشارات واضحة على إحداث تحول جذري فيما يتعلق ببقائها العسكري في سوريا، إلآّ أن التسريبات التي أوردتها مؤخراً وسائل إعلام أميركية بخصوص بحث إدارة الرئيس جو بايدن خططاً للانسحاب من سوريا تجعل الحاجة إلى التفاهم مع تركيا في ملف الوحدات الكردية أمراً لا مفر منه خصوصاً إذا ما أرادت واشنطن الحد من آثار أي انسحاب لها على مصالحها المستقبلية في هذا البلد.
إن التعاون الأميركي التركي في ملف مكافحة الإرهاب هو السبيل الأكثر منطقية لواشنطن لضمان الحفاظ على مصالحها في سوريا في المستقبل. فتركيا تبقى شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة وعضواً في حلف الناتو، وبالتالي فإن تعزيز دورها في الصراع يخدم الأهداف الأميركية المستقبلية في سوريا ويقوض قدرة إيران وروسيا على الاستفادة من فراغ أي انسحاب أميركي في المستقبل.
- ثالثاً، مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الفعال الذي لعبته الخلافات التركية الأميركية بخصوص الوحدات الكردية في دفع أنقرة إلى تعميق شراكتها مع الفاعلين الآخرين في الصراع السوري مثل روسيا وإيران، فإن واشنطن تسعى من خلال البحث عن سبل للتعاون مع تركيا في ملف مكافحة الإرهاب إلى الحد من انخراط أنقرة بشكل متزايد في الاستراتيجية الروسية الإيرانية الساعية إلى تقويض التأثير الأميركي والغربي في معادلة الصراع. إن الافتراض الواقعي أن تركيا ستُصبح أقل رغبة في مواءمة مصالحها مع روسيا وإيران في سوريا إذا ما وجدت أن الولايات المتحدة بدأت تتعاطى بواقعية مع هواجسها الأمنية بخصوص الوحدات الكردية.
لم يتبق على نهاية ولاية الرئيس بايدن سوى بضعة أشهر ومن غير المتصور أن تكون هذه الفترة كافية لتركيا والولايات المتحدة للتوصل إلى حل كامل لملف الوحدات الكردية فضلاً عن التعقيدات الكبيرة التي تواجه مثل هذا الحل. لكنّ شروع البلدين في عملية المواءمة لمصالحهما في سوريا يُساعدهما في المستقبل في بناء أرضية مشتركة للتعاون في سوريا بمعزل عن الرئيس الذي سيحكم الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر تشرين الثاني المقبل.