عندما بدأت روسيا باختلاق ذريعة لحربها ضد أوكرانيا في شهر آذار الفائت، سارعت لاتهام كييف بالضرب داخل الحدود الروسية وتفجير حاجز للتفتيش هناك، بالرغم من عدم وقوع أي إصابات تذكر.
واليوم، في الوقت الذي تسعى فيه القوات الروسية لفرض حصارها على المدن الأوكرانية ولزيادة وحشيتها، تبرر موسكو غزوها عبر الاستشهاد بمخاوفها من إعادة إطلاق أوكرانيا لبرنامج الأسلحة النووية، كما زعمت روسيا أيضاً عثورها على وثائق تبيّن بأن أوكرانيا تطوّرت أسلحة كيماوية وبيولوجية بناء على أوامر وصلتها من "الأوصياء عليها في البنتاغون".
"القضاء على العرق السلافي"!
إلا أن أسباب روسيا لشن الحرب ما فتئت تتطور، إذ أصبحت تشتمل اليوم على مزاعم تقضي بأن أوكرانيا طوّرت أسلحة بيولوجية لتستخدمها لأسبابٍ إثنية حيث تخطط للقيام بمجزرة تستهدف العرق السلافي، إلى جانب إجراء كييف لأبحاث تتصل بفيروس كورونا على الخفافيش، وكل ذلك أتى بطريقة توحي باحتمال أن تكون أوكرانيا مسؤولة عن نشر جائحة كوفيد-19.
ولذلك تخشى أوكرانيا وحلفاؤها في الغرب من تحوّل تلك المزاعم إلى أساس يُبنى عليه الهجوم الروسي الجديد الذي لا بد أن يكون مريعاً.
إذ ذكر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تسجيل مصوّر له يوم الخميس الماضي ما يلي: "إننا متهمون بتدبير هجمات على روسيا الآمنة كما يدّعون، والآن ماذا؟ ماذا أعددتم لنا غير ذلك؟ متى ستضربون بأسلحتكم الكيماوية؟"
تشابه المزاعم الروسية بين أوكرانيا وسوريا
وبناء على ذلك قام خبراء بتشبيه ما يحدث الآن في أوكرانيا بما قدّمته موسكو من دعم لبشار الأسد في سوريا، حيث كانت روسيا تتهم الثوار بضرب مناطق المعارضة واستهدافها بهجمات بالأسلحة الكيماوية، لذا يرى محللون اليوم بأن روسيا قد تخلق سردية مماثلة بصورة استباقية حول أوكرانيا لتبرير مزيد من هجماتها العدوانية، إذ تقول حنا نوتي وهي باحثة مشاركة رفيعة المستوى لدى مركز فيينا لنزع السلاح ومنع انتشاره: "إن اللعبة هنا تعتمد بصورة أساسية على خلق سردية تدّعي من خلالها بأن خصمك شارف على استخدام أسلحة شائنة وذلك لتبرير أي عمل عسكري وحشي ضد خصمك... فإذا كنا نتحرك باتجاه هجوم على كييف أو على غيرها من المدن الرئيسية في أوكرانيا خلال الأيام المقبلة، فهذا يعني بأن تلك السردية ستتحول إلى جزء من الأساس الذي سيُرسم لذلك الهجوم".
تشبه الرسائل الروسية حول السلاح الكيماوي الهجوم بالغاز السام الذي استهدف ريف دمشق الذي كان خاضعاً وقتئذٍ لسيطرة الثوار في عام 2013 إلى حدٍ بعيد، إذ رأى الرئيس فلاديمير بوتين في مقالة رأي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز بأن الثوار قاموا بتمثيل هجوم مزعوم بهدف تشجيع الدول على التدخل في الشأن السوري، وذلك بعدما حدد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أي استخدام للسلاح الكيماوي في سوريا بالخط الأحمر.
عادت ضربات السلاح الكيماوي من جديد بعد سنوات على التدخل العسكري الروسي في سوريا لصالح الأسد، ولهذا أنحى محللو السلاح الكيماوي باللائمة على قوات الأسد بالنسبة لمعظم تلك الهجمات، إلا أن مسؤولين روساً زعموا وقتئذ بأن تلك الهجمات لم تكن ملفقة وحسب، بل أصرّوا أيضاً على أن بعضها كان مجرد تمثيل.
سوري يتلقى أوكسجيناً بعد تعرضه لغاز الأعصاب في الهجوم الذي وقع بريف دمشق عام 2013
"عبارات مجازية قديمة"
كان لمزاعم موسكو أثرها الكبير في التشكيك بالمبررات الأميركية للحرب، بعدما بررت واشنطن غزوها للعراق بزعمها أن بغداد تطوّر أسلحة دمار شامل، ولكن تبين أن تلك المزاعم كانت زائفة.
والآن، يبدو بأن هذا الخطاب قد عاد للظهور في أوكرانيا، بحسب ما ذكره توبياس شنايدر وهو عضو في معهد السياسات العامة الدولية إذ أجرى أبحاثاً حول السلاح الكيماوي في سوريا، يقول: "يبدو بأن الروس الذين يتعاملون مع الشأن الأوكراني قد قاموا بكل بساطة بفتح كتاب الدليل واستخرجوا منه بعض العبارات المجازية القديمة التي استخدموها على مدار سنوات، لا سيما تلك العبارات التي سبق للغرب أن استخدمها ضدهم".
تغير المزاعم مع تطور الحرب
تغيرت اتهامات روسيا لتبرير الحرب بعد فشلها في تحقيق انتصار سريع كانت تتوقع حدوثه على ما يبدو.
إذ أعلنت موسكو في بداية الأمر أنها تعمل على حماية الأوكرانيين الناطقين بالروسية من النظام الذي وصفته بالنازي الجديد المدعوم من قبل الولايات المتحدة، وبأنها قامت بذلك العمل العسكري بعدما بلغتها أنباء عن مخططات للهجوم على روسيا. بعد ذلك بدأت موسكو تزعم بأن أوكرانيا عازمة على إعادة إطلاق برنامجها النووي وبأن "إمكانات أوكرانيا أصبحت أعظم بكثير مما تمتلكه كل من إيران وكوريا الشمالية من أسلحة نووية".
وفي السادس من آذار، اختفت تلك المزاعم من وسائل الإعلام الرسمية الروسية لتظهر مكانها سردية جديدة، وذلك عندما زعمت روسيا اكتشافها بأن أوكرانيا تعمل على "عناصر بيولوجية قادرة على نشر أمراض وأوبئة ضمن مجموعات إثنية معينة" وبأنها أجرت دراسات على طرق الهجرة التي تسلكها الطيور التي بوسعها أن تحمل تلك العوامل الممرضة القاتلة إلى الأراضي الروسية.
مبنى سكني تم تدميره على يد الروس في خاركيف الأوكرانية
وبعد ثلاثة أيام على ذلك، أعلنت روسيا أن "قوميين أوكرانيين" خبّؤوا 80 طناً من ماء النشادر بالقرب من كييف، تلك المدينة التي تتعرض لحصار شديد من قبل روسيا، وذلك "استعداداً للتحريض على استخدام مواد سامة بهدف اتهام روسيا باستخدام أسلحة كيماوية".
ومن هنا يبدو بأن الأسلحة البيولوجية قد تطوّرت من خلال تقييم الكرملين للمخاطر التي واجهته، بالرغم من أن موسكو لم تقدم سوى أدلة قليلة لإثبات صحة مزاعمها.
أميركا هي السبب!
إذ أعلن نيكولاي باتروشيف أمين سر مجلس الأمن الروسي خلال العام الفائت بأن مقارّ السلاح البيولوجي التي تسيطر عليها الولايات المتحدة أصبحت "تتزايد وكأنها تورّمت وذلك عبر مصادفة غريبة، ومعظمها ظهر على الحدود الروسية والصينية".
اتهمت روسيا الولايات المتحدة في مناسبات عديدة ابتداءً من عام 2018 بتطوير أسلحة بيولوجية في مختبر بجورجيا، تلك الدولة التي خسرت في الحرب التي امتدت لخمسة أيام أمام روسيا في عام 2008، حيث زعم غينادي زيوغانوف، وهو زعيم الحزب الشيوعي في روسيا، خلال الأسبوع الماضي بأن علماء أميركيين يريدون أن: "يسمموا كل شيء روسي وأن يقضوا على بلادنا".
"حرب وقائية"!
ومع استمرار الحرب، تسهم المزاعم الروسية الكثيرة بمساعدة الكرملين على إقناع الشعب الروسي بأنه قام بهذا العمل لحمايتهم من التهديدات الأوكرانية، بحسب ما ذكره ألكساندر غابويف وهو زميل رفيع المستوى لدى معهد كارنيغي بموسكو، حيث قال: "من الضروري للغاية شرح ما تعنيه كلمة الحرب الوقائية".
وفي يوم الجمعة الماضي، حملت روسيا مزاعمها إلى هيئة الأمم المتحدة، حيث اتهم مندوبها فاسيلي نيبينزيا الولايات المتحدة وأوكرانيا بالاستعانة بالطيور والخفافيش والحشرات لإرسال "عوامل ممرضة خطيرة" ونشرها في أرجاء أوروبا، وهذا ما أنكره نظراؤه الغربيون، ودفعهم للتعبير عن خوفهم إزاء تحوّل تلك المزاعم إلى مقدّمةٍ تسبق "هجوماً لا بد أن يُعزى للطرف الآخر" في أوكرانيا.
إلا أن شنايدر يرى بأن الأفكار بمفردها هي التي طوّرت قضية الروس ودفعتها نحو الأمام، ولهذا يقول: "بالنسبة لهم، لا يهم إن كانت تلك المزاعم حقيقية أم لا، وأعتقد أنهم يظنون بأن الأميركيين يتصرفون بالطريقة ذاتها، إذ تعتمد هذه الطريقة على منحهم نفوذاً وثقلاً بوسعهم أن يستخدموه في حيلهم التي يطلقونها أمام الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية... كما أن تلك المزاعم تعكر صفو المياه بكل بساطة على كل المستويات، وذلك لأنك إن بقيت تروي هذه السردية التي سبق أن استخدمت في سوريا، عندئذ ستدفع الناس للتفكير والاعتقاد بأن هذه المزاعم يتم إطلاقها مع أي حرب، فمن ذا الذي يميز الصحيح منها؟
المصدر: فاينانشال تايمز