غياب النقد.. غياب للثقافة كلها

2023.01.16 | 06:42 دمشق

غياب النقد.. غياب للثقافة كلها
+A
حجم الخط
-A

كم موجعة هي البلاد التي تمسك بأعناق مبدعيها من الحنجرة، كم هي موجعة تلك البلاد التي لم تقدر أن تنجب ناقداً واحداً، بقامة مشابهة لـ رجاء النقاش.. مثلاً!

ولم نذكر رجاء النقاش؟ لأنه ببساطة كان رجلاً خطيراً على المستوى النقدي ومستوى قراءة النص المختلف، النص الآخر، اللامتشابه، كان هاجسه على الدوام هو البحث في المنشورات والمطبوعات عما يحتاجه المستقبل، وليس عما يحتاجه الحاضر، يبحث في متون النصوص عن المختلف وليس عن تكريس المكرس، وكنت في مقام سابق قد تحدثت عن ثقافة التكريس التي تنتهجها الثقافة العربية، هذه الثقافة التي تستمد مبدأها من مزاوجة الدين والسياسة، حيث لا يمكن للديمقراطية الثقافية أن تستوطن جسد أمة لا تسكنها الديمقراطية السياسية، لذلك فإن ثقافةً لا نقد فيها، ولا نقاد و لا صحافة أدبية تعيد تقييم أمور الأدب ومقاماته وأساليبه وتقوّم أخطاءه، لا يمكن أن تخطو إلى الأمام أبداً بثقافتها، ولكم أن تتخيلوا أن من يقيّم ويلقي المواعظ الأدبية على المثقفين والقراء العرب هم أصحاب الأبواب العالية للجوائز الأدبية، التي يُملى على القيمين عليها اختيار وتوجيه اللجان التي ستشرف على هذه الجوائز، ومن ثم تقوم الجائزة بتنصيب الفحول الأدبية علينا في كل عام، دون إيضاح لم وكيف ولماذا تتم هذه الاختيارات؟ ولمَ لا تتم اختيارات أخرى تجد صدى هائلاً لدى القارئ العربي..؟

الجائزة الحقيقية فعلاً هي رأي القراء ممن يتسابقون إلى شراء الرواية ومنحها تقييمهم في استفتاء شعبي ضخم يجري كل عام بين القراء الفرنسيين حول الكتاب الفائز

ولنظهر الفرق، أعتقد أنه يجب علينا ذكر سياق جائزة الغونكور الفرنسية الأدبية، التي تتكون جائزتها من بيضة خشبية فقط، يحصل عليها الكاتب الذي يفوز بأهم جائزة أدبية فرنسية، بعد جلسات تقييم يعقدها كبار أمناء وخبراء الجائزة من النقاد والكتاب الفرنسيين، ولكن رأي اللجنة لا يمنح الكاتب سوى صفة الجائزة، حيث إن الجائزة الحقيقية فعلاً هي رأي القراء ممن يتسابقون إلى شراء الرواية ومنحها تقييمهم في استفتاء شعبي ضخم يجري كل عام بين القراء الفرنسيين حول الكتاب الفائز.. وعليه فقد تبلغ مبيعات الكتاب الفائز قرابة المليون نسخة، بما يعني مردوداً مالياً ضخماً للكاتب وللناشر، وهذا يأتي مباشرةً من القراء، وليس من ممولي الجوائز التي تندرج جميعها ضمن سياسات الدول.. ويخضع لها جميع النقاد وجميع لجان التقييم، ولا أعمم لأننا على الدوام أمام استثناءات.

لذلك فإن الفجوة بين اختيارات نقاد الجوائز، وبين جمهور القراء، كبير جداً، وغير موثوق، ولقد سمعت العشرات من الأراء التي تنتقد قرارات اللجان الأدبية، دون أي جدوى طبعاً، ففي البلاد الناطقة بلسان الضاد لا قيمة للاحتجاج حتى لو كان أدبياً، ولا مجال للخروج على رئيس الجائزة حتى لو كان هذا الخروج هو انتقاد شاعر البلاط.

وأنا أجزم أن السبب الرئيس في هذا يعود إلى غياب الناقد الفرد، الناقد المثقف، المستقل، الذي يتوجب عليه الاستيلاء على دفة الرأي العام وتصويب الأفكار فيه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، هنالك في الغرب نقاد، يمكنهم أن يسقطوا كتاباً كاملاً من الحسبان إن هم كتبوا ضده في عروضهم التحليلية، وكذا الأمر لدى نقاد السينما والمسرح، وحتى الطعام..

فمهمة الناقد هي مهمة ثورية تبشيرية، لا تتوقف عند الترويج لأديب معين أو ثلة من المثقفين منغلقة على ذاتها، يقوم الناقد المعاصر فيها فقط بالكتابة عنها، وكأنه متخصص في شؤون ذلك الكاتب فقط، دوناً عن غيره.. بينما تحتاج الحركة الثقافية فعلاً إلى نقاد أدبيين متخصصين بقراءة الكتب، الأدب، الشعر، المسرح، السينما، وإبداء رأيهم.. بشكل ثابت ومتخصص وممنهج، والوقوف بقوة ضد خيارات الجوائز الأدبية، إن كانت خاطئة.. وما أكثر أغلاطها..

من دون شك أن هنالك فوضى ما، تربك المشهد الثقافي العربي، منذ عشر سنوات على الأقل، فوضى سببها الصراع بين ثقافة المؤسسات الجديدة التي ترغب في إعادة السيطرة على المنتج الأدبي العربي، وثقافة الناس الشعبية التي تنتمي إلى القراءة المفتوحة، والخيارات المفتوحة للأجمل، وعوالم السوشال ميديا، وتبادل الآراء عبر مواقع متخصصة للنقد الشعبي وتقديم الرأي في الأعمال الأدبية مثل جوود ريدز وغيرها، ويبدو أن الأمر لم يعجب القيمين على الثقافة الرسمية في الدول العربية، فعاجلوا إلى ابتكار مؤسسات ثقافية عصرية تفرض توجهاً معيناً على نتائجها، لتحل محل اتحادات الكتاب العربية البالية التي كانت تفعل ذات الفعل.. وتقدم الأدب على طبق من معدن فولاذي بارد للمواطن الشبق للمعرفة.

تلك الاتحادات الأدبية للكتاب، مشمولة بوزارات الثقافة المقيدة بكامل أنواع القيود على الفكر والمعرفة، وأقصد بالإضافة إلى القيود الدينية، والقيود السياسية، تلك القيود النفسية لدى النقاد العرب المكبلين بقيود لاتنتهي يكمن أولها في المحرمات الثلاثة، ولا ينتهي آخرها في الخوف من مواجهة الواقع، فالكاتب المعاصر يعي فكرة مواجهة المؤسسات الضخمة التي قد تقطع عنه الخير، ولأن الكاتب العربي لا يعيش من عائدات منشوراته الأدبية، فهو حتماً سيضطر إلى إيجاد بدائل أساسية تعيله وأسرته، وهنا تكمن المصيبة، التي تجعل الكاتب المعاصر يدخل في مجالات صدامية ومواجهات قد لا يكون له فيها نصيب.

فإن كان المثقف العربي لا يعيش من عائدات كتبه، فهو ينتظر من حالته ومسيرته الثقافية التقدير الذي يتمناه، وسيتمناه أي كاتب في البسيطة، لذلك فهو سيكون طعماً سريعاً وجيداً لأي ابتزاز تطرحه الجوائز الأدبية ومعانيها ومبانيها..

هؤلاء القراء يحتاجون بشدة إلى عقلية نقدية حادة، تشير بصدق إلى الجديد في الكتابة، إلى القيمة الأدبية التي يجب أن يهتم بها الجميع

سبب كل هذه الفوضى برأيي هو  غياب رجاء النقاش المعاصر، الذي سيحدد الفصل بين الغث والثمين، وسيكون قادراً على تقديم الموجات الجديدة من الأدب من شعر وقصة ومسرح ورواية إلى جمهور القراء المتنامي في المنطقة العربية، هؤلاء القراء يحتاجون بشدة إلى عقلية نقدية حادة، تشير بصدق إلى الجديد في الكتابة، إلى القيمة الأدبية التي يجب أن يهتم بها الجميع، وليس إلى ترويج الصحف الصفراء للكتب المتعبة، التي تنشرها دور نشر متعبة، وتعرضها معارض كتاب متعبة..كل شيء متعب في ثقافتنا العربية، إلى الكتاب أنفسهم ..فهم محملون بالرغبة الدائمة على الاستمرار بتقديم أفضل ما لديهم.. وأيضاً القراء الذين ينتظرون بشغف كل كتاب له قيمة ويحقق لهم متعة ودهشة القراءة.