في كتابه (الأبرز)، "الأمة البيضاء: تخيلات التفوق الأبيض في مجتمع متعدد الثقافات (1998)"، يحذر الأنثروبولوجي اللبناني- الأسترالي المرموق غسان الحاج القراء، في تصدير الكتاب، بأن كتابه موجهٌ إلى القراء المنتمين إلى النخبة الفكرية أو الساعين إلى أن يكونوا منها، أي إلى أولئك الذين يعتقدون أن المعرفة نتاج عملٍ مضنٍ، وأنها تتطلب بحثًا يستهلك الكثير من الوقت، وقراءةً للكثير من الكتب، وتفكيرًا في الكثير من المسائل الفلسفية والنظرية والإمبريقية الصعبة أو المعقدة.
في السياق ذاته، ينتقد الحاج النظرة الشعبوية التي تستسهل أن تدلي بدلوها، بل بسطلها وببرميلها، في مواضيع تعاني من جفافٍ كاملٍ في قراءاتها عنه، لكنها ترى أن خبرتها الحياتية كافيةٌ ووافيةٌ لأن تجعلها خبيرةً معرفيةً في ذلك الموضوع. ويقتبس الحاج، بعدها، بضعٍ جملٍ من كتاب كفاحي لأدولف هتلر، تعبر عن تلك النظرة الشعبوية المضادة للمثقفين أو النخبة المفكرة، ويشير إلى أنه لا يستطيع التوقف عن تذكر هتلر، أو التفكير فيه، عندما يبدأ الناس في الإساءة إلى المثقفات/ المثقفين.
لم يكن بإمكان غسان الحاج حينها أن يعلم أنه بعد أكثر من ربع قرن على كتابته لهذه الكلمات، سيُطلب منه أن يخضع لمحكمة تفتيشِ صحفيةٍ وشعبويةٍ ويمينيةٍ، في الوقت ذاته. لكن يمكن عدُّ كلماته المذكورة بمنزلة الاستشراف المستقبلي (غير) المقصود، أو التأسيس النظري المسبق، لما التزم بالقيام به، عمليًّا، لاحقًا. وستكون المقارنة بين ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين وما فعله هتلر/ النازيون باليهود (وما فعله الحلفاء بالألمان)، هي الذريعة لقيام مؤسسةٍ ألمانيةٍ عريقةٍ – معهد "ماكس بلانك" للأنثروبولوجيا الاجتماعية في ألمانيا – بإنهاء علاقة العمل مع غسان الحاج حيث كان أستاذًا/ باحثًا زائرًا في تلك المؤسسة منذ نيسان/ أبريل 2023. وقد جاء في بيان المؤسسة المقتضب إن البروفسور الحاج قد "نشر مؤخرًا سلسلة من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن آراء متعارضةٍ مع القيم الأساسية لجمعية ماكس بلانك". واختتمت المؤسسة بيانها بالقول بوقاحةٍ: "العنصرية وكراهية الإسلام ومعاداة السامية والتمييز والكراهية والإثارة ليس لها مكان في مجتمع ماكس بلانك". وصفت هذا القول بالوقاحة، لأنه يتضمن تلميحًا أو تصريحًا، أن منشورات الحاج الفيسبوكية تتضمن "معاداةً للسامية وتمييزًا وكراهيةً وتحريضًا"، مع العلم أن كل ما قاله أو فعله غسان الحاج، في المجال العام، ينفي عنه تلك التهم. موقف المعهد الاكاديمي "المرموق" يتفق مع اتهامات صحيفة Welt am Sonntag اليمينية التي أثارت هذه القضية بنشرها لمقالٍ يتضمن اتهامات للحاج باتخاذه موقف متطرفة ضد إسرائيل، وبكونه ناشطًا منذ سنواتٍ في حركة المقاطعة ضد إسرائيل، وبأنه ينشر الكراهية المعادية للسامية.
وقد رفض الحاج الرد على رسالة الصحيفة اليمينية التي طلبت التواصل معه، وبرر رفضه التواصل مع الصحفيين الذين كتبوا ذلك المقال، بالقول: «إنه مقال مليءٌ بأنصاف الحقائق والأكاذيب الصريحة والتلميحات الخادعة. لن أكرم هؤلاء الأشخاص أبدًا بالرد: إنهم ليسوا مثقفين. إنهم قتلة أيديولوجيون. إنهم لا يكتبون بحثًا عن الحقيقة. يكتبون للانخراط في اغتيال الشخصية. يمكنهم الذهاب والتحدث مع أشخاص علٍى شاكلتهم». وأصدر الحاج لاحقًا بيانين للرد على إنهاء عمله، يوضِّح فيها مضامين موقفه من الأطراف الألمانية المعنية بهذه المسألة ومن اتهاماتها، الصريحة أو الضمنية له.
ما حصل مع غسان الحاج ليس حدثًا عرضيًّا أو فرديًّا أو نادرًا. وهو يحدث، خصوصًا، لكل من يقارن بين الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والجرائم النازية بحق اليهود
قد تكون شهادة الحاج بنفسه مجروحةً، رغم أنها تتضمن الكثير من الوقائع والأفكار والحجج التي تظهر سخافة الاتهامات التي وُجِّهت إليه، في ألمانيا، ولهذا كان مهمًّا ولافتًا للانتباه والاحترام والتقدير العدد الهائل من بيانات المساندة له والمتضامنة معه، والمنددة بما تعرض له من مؤسسة ماكس بلانك ومن الإعلام اليميني الألماني، والتي صدرت من كل أنحاء العالم وقاراته، سواء من بعض أهم المؤسسات الأكاديمية (الأنثروبولوجية)، كالجمعية الألمانية للأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، والجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية، وجامعة ملبورن، أو بيانات تحمل توقيع عشرات أو مئات الشخصيات الأكاديمية، ومن ضمنها خمسين شخصية أكاديمية إسرائيلية/ يهودية ...إلخ. وقد شددت المؤسسات والشخصيات التي أصدرت تلك البيانات، أو وقعت عليها، على أنها انطلاقًا من اطلاعها على كل الوثائق والمعلومات المتوفرة في هذا الخصوص، ومن معرفتها بنتاجه المعرفي وتاريخه الأكاديمي (والشخصي)، ومضامين كتاباته ومحاضراته المتمحورة حول العنصرية والشتات والسياسات العرقية والهوياتية والقومية والاستعمارية ...إلخ، تؤكد أن لا أساس للاتهامات التي وجهت إليه، وأن ما قامت به مؤسسة ماكس بلانك يمس الحرية الأكاديمية وحرية التعبير التي تتعرض لتهديداتٍ متزايدةٍ، في ألمانيا، وفي مناطق أخرى من العالم.
ما حصل مع غسان الحاج ليس حدثًا عرضيًّا أو فرديًّا أو نادرًا. وهو يحدث، خصوصًا، لكل من يقارن بين الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والجرائم النازية بحق اليهود. ويصح، في هذا السياق، القول المبتذل "ما خفي كان أعظم". فقد حصل أمرٌ مشابهٌ مع الكاتبة الصحفية الروسية الأمريكية ماشا جيسِن، حيث انسحبت مؤسسة "هاينريش بول" وحكومة بريمن الألمانية، من حفل جائزة "حنا أرندت" للفكر السياسي" التي كان من المقرر منحها لها، بسبب مقال نشرته الكاتبة على مجلة "نيويوركر" الأمريكية، قدمت فيه نقدًا لاذعا لموقف ألمانيا وسياساتها تجاه إسرائيل "في ظل الهولوكوست"، وشبَّهت فيه قطاع غزة بالأحياء اليهودية في أوروبا الشرقية أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد عبر كثيرون عن غضبهم وسخريتهم من ذلك الموقف، ورأوا، محقين، أن حنا أرندت ذاتها لن تكون مؤهلةً للحصول على الجائزة المسماة باسمها، لو أنها كانت تعيش في ألمانيا هذه الأيام.
***
وجود غسان الحاج مناسبٌ في أي مكانٍ/ بلدٍ يكون فيه، لكن، بدا أن وجوده في ألمانيا خلال هذه الفترة غير مناسبٍ جزئيًّا. فالكثير من الأشخاص، الألمان وغير الالمان، قد اضطروا إلى الامتناع عن إبداء رأيهم ، بصراحةٍ ووضوحٍ، حيال القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وتناصحوا ونصحوا الآخرين بألا يعبروا عن آرائهم في هذا الخصوص، وأن يحنوا رؤوسهم في انتظار أن تمر بسلامٍ عاصفة التضييق على الصوت المناصر للحق الفلسطيني والناقد للاحتلال الإسرائيلي. في المقابل، بدا غسان الحاج، في نصوصه المنشورة ومنشوراته في وسائل التواصل الاجتماعي، صريحًا وواضحًا في اختلافه مع "الموقف الألماني الرسمي". وسبق للحاج أن نحت مصطلحًا خاصًّا (exighophobia) لتوضيح الرهاب الذي يصيب كثيرين من أي محاولةٍ لتقديم تفسيرٍ تاريخٍ اجتماعيٍّ للتفجيرات الانتحارية/ العمليات الاستشهادي التي (كان) يقوم بها الفلسطينيون ضد إسرائيل. ومن المعروف أن (إ)رهابًا مماثلًا هيمن في المجال العام الألماني حيال أي محاولةٍ لفهم أو تفسير أو شرح سياقات هجمات حماس في السابع من أكتوبر. ومن هنا تحدثت الفيلسوفة والأكاديمية الأمريكية (اليهودية) جوديث بتلر، في نص "بوصلة الحِداد"، عن ظاهرة "منع التفكير" في ألمانيا ، وتحدث الفيلسوف السلوفيني سلوفان جيجيك، عن منع أو معارضة التحليل في ألمانيا. ولهذا يبدو أنه كان من المحتم أو المرجح، على الأقل، أن يحدث الصدام بين الجهة المصابة بالرهاب أو الخوف المرضي المذكور أو المروِّجة له، وغسان الحاج، بوصفه الشخص الناقد لهذه ال(إ)رهاب، والرافض للخضوع له.
في أحد نصوصه النادرة باللغة العربية، والموسوم ﺑ "العلوم الاجتماعية العربية بين تقليدين نقديين"، يشدد غسان الحاج على ضرورة التمييز بين السمة النقدية لعلم الاجتماع والسمة الجذرية لما أسماه مع الفرنسيين "السياسة السياسوية، سياسة السياسيين المحترفين". والسياسة التي يمارسها غسان الحاج، "سياسة علماء الاجتماع، ليست "معاديةً" لهذا النوع من السياسة، لكنها ترفض أن تُستعبد لها، ترفض مثلًا أن تطيع منطق الصديق/ العدو الذي تفرضه تلك السياسة". وعلى الرغم من أنه قد يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أن نصوص/ مواقف غسان الحاج تجاه القضية الفلسطينية/ الاحتلال الإسرائيلي قد اتسمت بالجذرية (أيضًا)، وليس بالسمة النقدية (فقط)، فإن المدقق في تلك النصوص والمواقف يدرك، "سريعًا، على الأرجح"، أن السمة النقدية المتوازنة، وليست الجذرية، الأحادية، كانت وما زالت هي المهيمنة على تلك النصوص والمواقف. فمن المنظور المعرفي، يرفض الحاج منطق الصديق/ العدو، حتى في تعامله مع "الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي"، ولا يتردد في نقد/ انتقاد أي طرف، أو الإشادة به، إذا رأى أن هناك ما يستحق الانتقاد أو الإشادة. ويرفض الحاج التخيير الأيديولوجي أو السياسوي التبسيطي الذي يضع المسائل في قضايا عنادية "إما معنا وإما ضدنا، ولا إمكانية لرفض الخيارين أو الجمع بينهما". فهو يرفض المنطق المانوي او المثنوي ويعمل على تفكيك المثنويات على الطريقة الدريدية، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا ما خلص إليه في نصه المذكور، حيث يرى أن "الحاسم دومًا أن لا نفكر أبدًا بالضد والبديل، وبالمقاومة والصمود، بمنطق "إما هذا أو ذاك" ولكن بالكيفية التي يمكن أن نفكر بالاثنين معًا".
***
للأسف، ليس هناك نصوص كثيرة لغسان الحاج أو عنه باللغة العربية، فهو يكتب باللغة الإنكليزية دائمًا تقريبًا. ولا تتجاوز عدد النصوص المنشورة له أو عنه باللغة العربية أصابع اليدين، على الرغم من أنه أحد أبرز علماء الأنثروبولوجيا والنظرية الاجتماعية المعاصرين، وصاحب عددٍ من المؤلفات الاكاديمية البارزة التي تركت بصمةً قويةً في ميدانها، مثل: فإضافةً إلى كتاب "الأمة البيضاء (1998)"، له كتاب "هل العنصرية تهديد بيئي؟ (2017)"، وكتاب "حالة الشتات: بحث إثنوغرافي عن اللبنانيين في العالم (2021)". وتستحق أفكاره وقيمه ومواقفه المبثوثة في كتبه أن تحتفي وتغتني بها اللغة العربية، في أقرب وقتٍ ممكنٍ.
على الهامش
منذ بضعة أشهرٍ، تواصل معي مدير "مشروع العلم" في ألمانيا، ليعرض علي المشاركة في فيلم تسجيلي قصير عن موضوع "الحريات الاكاديمية". وقد أطلقت الوزارة الاتحادية للتعليم والبحث العلمي فكرة "سنوات العلوم"، في ألمانيا، في عام 2000، لتعزيز الحوار بين العلم والمجتمع واستكشاف طرق جديدة لتوصيل العلوم. ويركز كل عامٍ على موضوعٍ مختلفٍ. ففي العام الماضي، 2023، على سبيل المثال، كل شيء تم التركيز على موضوع "الكون". أما في عام 2024، فيركز عام العلوم على موضوع "الحرية". وتهدف الأنشطة المختلفة، هذا العام، إلى تشجيع الناس على التحدث عن قيمة الحرية وأهميتها، وإلى إيصال الجوانب العديدة المختلفة للحرية في البحث، وزيادة الوعي بقيمة البحث والتدريس الحر، والمساهمة التي يقدمها ذلك في تأمين مستقبل يستحق العيش فيه ويقوم على الحرية. وفي سياق ذلك، سيتم إنتاج فيلم حول موضوع الحرية الأكاديمية، لتقديم معلومات واقعية عن الآثار الاجتماعية والشخصية للحرية الأكاديمية.
في يوم المقابلة والتصوير علمت أن كل المشاركات والمشاركين في هذا الفيلم هم من خارج ألمانيا، بل من خارج أوروبا حصرًا (من سوريا، وإيران، وتركيا، وأفغانستان، إلخ)، وليس هناك من يتحدث عن وضع الحريات الاكاديمية في ألمانيا. وأظن أن القائمين على الفيلم والمشروع عمومًا، يسلمون أو يعتقدون ببداهةٍ أن وضع الحريات الأكاديمية في ألمانيا "عال العال"، وليس موضع جدلٍ أو خلافٍ أو حتى نقاشِ! وقد أبديت استغرابي من ذلك الغياب أو التغييب لمسألة الحريات الأكاديمية في ألمانيا/ أوروبا، وأشرت إلى أنه على الرغم من الاختلاف الكبير في وضع الحريات الاكاديمية وغير الاكاديمية بين العالم الألماني أو الأوروبي وسوريا أو العالم العربي عمومًا، فهذا لا ينفي وجود مسائل شائكةٍ وإشكاليةٍ تستحق تسليط الضوء عليها في خصوص الحريات الأكاديمية في العالم الألماني والأوروبي. وقد أشرت، حينها، إلى موضوعين أساسيين: موضوع "القضية الفلسطينية والمسألة الإسرائيلية"، من جهةٍ، وموضوع "مجتمع الميم"، من جهةٍ أخرى. ففي خصوص كلا الموضوعين، يعدُّ الاختلاف في الرأي جريمةً، وأمرًا يستوجب العقاب، أو غير لبقٍ ومستهجنٍ على الأقل. ويمكن لهذا الاختلاف أن يترك تأثيرًا سلبيًّا في فرص النجاح المهني للاكاديمي وغير الأكاديمي للمختلفين. وقد تُرك لي حرية قول كل ما أريد قوله، وبعدها اختار القائمون على الفيلم عرض ما أرادوا عرضه.
وما زال الاحتفال بعام الحرية (الأكاديمية) مستمرًا في ألمانيا!