غزة، عقدة التاريخ السياسي وجحافل الجيوش، فمنذ 5 آلاف عام والمدينة لم يغب ذكرها عن أحداث تاريخ المشرق وتحولاته الحضارية. ومنذ تأسيسها بقيت غزة حاضرة وبقوة، إذ لا يمكن لخاصرة الشام وجميع ممالك الشرق الأدنى، وبوابتها الحصينة إلى مصر وشمالي أفريقيا، أن تكون حدثاً عابراً أو نافلاً.
لعنة المكان
لموقعها الاستثنائي بين مصر والشام وبقية أقاليم المشرق العربي من جهة، وبين قارتي العالم القديم، آسيا وأفريقيا، من جهة أخرى، ولكونها تشكّل الركن الآسيوي والفلسطيني الغربي الأخير على المتوسط ونقطة التماس مع سيناء من جهة ثالثة، ولأسباب عديدة أخرى يصعب حصرها؛ كُتب على غزة أن تعاني لعنة المكان، وحدها، بخلاف جميع "دول المدن" التي ذابت خلال العصور والأزمنة في الأقطار والأقاليم والدول.
ومنذ حقبة المدنيّة الأولى، والأمم والشعوب والأعراق التي مرت عليها، ابتداءً بالمصريين والكنعانيين، ومروراً بالآشوريين والفرس والمقدونيين والروم والعرب المسلمين، وما تعاقب عليها لاحقاً من إمارات وممالك وسلاطين، انتهاءً بالاحتلال الإسرائيلي وتبعاته، ظلّت غزة محافظة على تفاصيلها ونمط سلوك أهلها، وعلى سُمعتها سواء عند شعوب المنطقة أو عند الجماعات البشرية الطارئة عليها، بوصفها المدينة "العُقدة" واللغز الذي لا يقبل الحلّ إلا من رأسه.
الاسم المتفرّد
لم يعرف على وجه الدقة سبب أو أصل تسمية "غزة" بهذا الاسم، بالرغم من ذهاب العديد من المؤرخين والباحثين –من دون تمحيص وتقصٍّ- إلى تبني فرضية الاشتقاق من "القوة" و"المنعة". إلا أن الاسم الحالي بعيد عن ذلك الاشتقاق، وهو تحديث وتعريب للاسم القديم (هزاتو) كما سيمر معنا.
في كتاب "معجم البلدان"، يقول مؤلفه ياقوت الحموي إن العرب تقول: "قد غز فلان بفلان، واغتز به إذا اختصه من بين أصحابه، ومعنى ذلك أن الذين بنوا غزة قد اختصوا هذا الموقع لبنائها من بين المواقع الأخرى الواقعة على شاطئ البحر".
وعلى أية حال، بقي الاسم الحالي محافظاً على نفسه منذ أن أضاف عليها العرب اسم جد الرسول صلى الله عليه وسلم، لتصبح "غزة هاشم"، نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، الذي توفي فيها في أثناء عودته إلى الحجاز في إحدى رحلاته التجارية.
موطن الفلسطينيين الأول
تاريخ الاستقرار الأول في غزة يعود إلى الفترة ما بين 3300 - 3000 ق.م، في منطقة (تل السكن) التي تقع إلى الجنوب من غزة الحالية، وكانت عبارة عن حصن قديم بناه المصريون. واستوطن الأموريون والكنعانيون التل نحو عام 2500 ق.م.
إلا أن التأسيس الفعلي لغزة كمدينة متكاملة، حدث بين 1500 و1400 ق.م. وأول ذكر تاريخي للمدينة كان في فترة حكم الملك المصري "تحوتمس الثالث"، وجاءت باسم هزاتو (Hazattu) -بحسب نصوص رسائل تل العمارنة بمصر- وكانت حينذاك نقطة بداية رحلات تحوتمس لتأمين مراقبة فلسطين، كما كانت أيضاً مقر إقامة مبعوث الملك المصري المكلف بمراقبة أراضي كنعان.
ما بين السنوات 1197 و1193 ق.م، أقامت الشعوب المقيمة على الساحل الجنوبي من أراضي كنعان، مدينة محصنة ملاصقة لـ (هزاتو) أُطلق عليها تسمية (فلستي)، فوق هضبة ترتفع نحو 45 متراً فوق سطح البحر وعلى بعد 2.4 كم من البحر الأبيض المتوسط، ولاحقاً أصبح يطلق على الكامل فلسطين هذا الاسم.
صيغة التسمية بحسب المؤرخ الإغريقي هيرودوت (القرن الـ5 قبل الميلاد) بُني على أسس آرامية، فقد ذكر فلسطين باسم "بالستين"، وقصد بها الأرض الساحلية في الجزء الجنوبي من سوريا الممتدة حتى سيناء جنوباً وغور الأردن شرقاً.
وبحسب العهد القديم/ الكتاب المقدس، فإن (الفلستيين) أسسوا 5 ممالك، هي: غزة، إكرون، أشدود، عسقلان، غاث/ جِت. (ويشير العهد القديم إلى غزة بأنها المدينة التي لا يمكن غزوها، وكان يقيم فيها أبناء سبط يهوذا).
تناوب الآشوريون والمصريون السيطرة على المدينة، إلى أن ظهرت الإمبراطورية الفارسية الإخمينية (550- 330 ق.م) على الساحة الدولية. حقق خلالها قطاع غزة الاستقلال النسبي والازدهار.
الإسكندر الكبير والعقدة الكبرى
خاض الإسكندر المقدوني (الكبير) عام 333 ق.م حرباً ضروساً ضد الفرس الإخمينيين تمكن خلالها من إسقاط إمبراطوريتهم عقب معركتي (غوغاميلا) و(إيسوس) التي أعقبها مقتل آخر أباطرة الفرس (دارا/ داريوس الثالث).
وبعد أن استولى على مدن العراق وسوريا وصولاً إلى ساحل المتوسط، حاصر مدينة صور التي رفضت الاستسلام له، وحين احتلها انتقم من سكانها شر انتقام عبر القضاء على الآلاف منهم.
وبرغم قضائه على أقوى جيوش العالم آنذاك وإسقاط دولتهم (الفرس)، وانتقامه الوحشي من المدن التي رفضت الاستسلام له، إلا أن ذلك لم يردع غزة من الوقوف في وجه الإسكندر ومقاومته.
تصدت غزة للإسكندر وقاومته، ورفضت أن تستسلم وتشرعن الاحتلال، وكاد الإسكندر أن يلقى مصرعه عند أبوابها، ما دفعه إلى حصارها حصارًا شديدًا لنحو شهرين، ونجح بعد جهد في الاستيلاء عليها عام 332 ق.م، فانتقم أيضاً من أهلها شر انتقام وارتكب بحقهم أفظع الجرائم. وبذلك سقط خط الدفاع الأخير عن مصر، فما إن توجه الإسكندر إليها حتى استسلم له ملكها الفارسي من دون قتال.
ولم يطل الوقت حتى مات الإسكندر ونشبت حروب شديدة بين خلفائه من القادة الذين رافقوه في معاركه، من مقدونيا واليونان حتى الهند، وبطليموس حاكم مصر. وانتهى الأمر باستقرار الأخير في غزة وفلسطين، إلا أن هذا لم يمنع استمرار غزة في حروب مستمرة بين البطالمة وغيرهم حتى صارت السيادة فيها للدولة السلوقية في سوريا.
انتقام آخر
وظلّت غزة خلال هيمنة المقدونيين (اليونانيين) مستقلة ويحميها سورها، وأطلق عليها آنذاك مسمى (غزة المقدسة، والمضيئة، والعظيمة) إلا أن الرومان تمكنوا من احتلالها رغم صمودها ومقاومة أهلها الشديدة، ما دفع القائد الروماني (إسكندر جانيوس) في عام 103 ق.م إلى الانتقام من المدينة وتخريبها.
ونظراً لمنعتها وعنادها، كانت المدينة في عصر الرومان تتبع للإمبراطور مباشرة وتدار بواسطة مندوب سامٍ عنه، وأقيم فيها مصنع لصك العملة، وسميت لديهم بالمدينة (الشريفة أو المنيعة).
حصار آخر
تلك المنعة وذلك الاستقلال النسبي والرخاء الذي نعمت به غزة خلال حكم الرومان، لم يمنعها من التعرض لحصار آخر عام 96 ق.م من قبل (الحشمونيين) الذين "أطاحوا تمامًا" بالمدينة، ما أسفر عن مقتل 500 من أعضاء مجلس الشيوخ الذين كانوا قد فروا إلى معبد (أبولو) طلباً للسلامة والنجاة.
والحشمونيون يتبعون لسلالة حاكمة في مملكة يهوذا والمناطق المحيطة بها خلال العصور القديمة الكلاسيكية/ الهلنستية (اليونانية والرومانية). وحكمت السلالة مملكة يهوذا بشكل شبه مستقل عن السلوقيين (خلفاء الإسكندر المقدوني) بين عامي 140 و116 ق.م، منذ عام 110 ق.م، ومع تفكك الإمبراطورية السلوقية، أصبحت السلالة مستقلة تمامًا.
المسيحيون أيضاً لم يسلموا
وعندما انتشرت المسيحية، كان لمسيحيي غزة حصة أيضاً من المعاناة والاضطهاد الشديدين، حيث لقي الأسقف "سيلفانوس" مع 39 آخرين من مسيحيي غزة مصرعهم عام 285م. ورغم كل ما حلّ بها، تقدّمت غزة في الكثير من الصناعات المتطورة مع نهاية القرن الخامس الميلادي.
الفتح العربي الإسلامي
فتحت غزة عام 635 م على يد عمرو بن العاص الذي قاد جيش المسلمين في فلسطين، وذلك عقب موقعة أجنادين ضد الروم/ البيزنطيين. وشكلت الحقبة الإسلامية بداية عهد من الاستقرار والرخاء والحرية شهدته المدينة، واعتنق معظم سكانها الإسلام طواعية، وحلت اللغة العربية محل بقية اللغات فيها.
وبعد احتلال الفرنجة (الصليبيين) بيت المقدس، خلال الحملة الصليبية الأولى عام 1099م، لم يتمكنوا من احتلال غزة إلا بعد عامين، حيث قتلوا عددًا من أهلها المسلمين والمسيحيين، ودمروا المدينة، وفقدت المدينة في عهدهم أهميتها التجارية لتحل محلها عسقلان، في حين بقيت لها أهمية عسكرية لبقاء قلعة "الداروم" أو "دير البلح" في جنوبها.
وخلال الحملات الصليبية، برزت أسماء العديدين من أبطال المدينة، مثال الأمير "شجاع الدين عثمان بن علكان الكردي"، الذي قتل في 1187م، خلال مناوشات مع الصليبيين، وتعود له تسمية حي "الشجاعية" الشهير في غزة.
واستمرت غزة في أداء دورها الاستراتيجي التجاري الثقافي في العهد المملوكي، ودارت على أرضها معركة غزة الثانية التي هُزم فيها الصليبيون للأبد 1244م.
استعادت المدينة موقعها في العالم العربي والإسلامي عام 1187م، بعد معركة حطين، ولكن المغول استولوا عليها عام 1260م، فوجّه المظفر قطز في نهاية العام جيشاً كبيراً بقيادة الظاهر بيبرس، ونجح الأخير في التصدي للمغول، وتحررت المدينة عقب انتصار عين جالوت في أيلول من العام نفسه.
واستمرت غزة في أداء دورها الاستراتيجي التجاري الثقافي في العهد المملوكي، ودارت على أرضها معركة غزة الثانية التي هُزم فيها الصليبيون للأبد 1244م.
وبعد معركة مرج دابق عام 1516م، خضعت غزة للإمبراطورية العثمانية لتظل منيعة وقوية تحت حكمهم من 1517 إلى 1917م.
خلال الحقبة العثمانية
خلال حملته على سوريا ومصر، استولى نابليون بونابرت على غزة في الـ24 من شباط 1799م، قبل أن يضطر إلى الانسحاب منها كما انسحب من جميع المدن الشامية بسبب الإرهاق والمرض الذي أصاب جنوده، ثم اضطر محمد علي إلى سحب ابنه إبراهيم من غزة بعد دخوله لها من دون حرب، في شباط 1841م.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى حاول البريطانيون احتلال غزة، وبالرغم من فشلهم في معركتين، استطاع اللورد (اللنبي) الاستيلاء عليها في الـ7 من تشرين الأول 1917، ليطلق عبارته الشهيرة: "كانت غزة منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا بوابة الفاتحين".
بين بريطانيا وإسرائيل
بقيت المدينة تحت الاحتلال البريطاني حتى الـ15 من أيار 1948، حين أعلنت إسرائيل قيام "دولتها" وتنشِئ أرضها على القسم الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية.
إلا أن قطاع غزة بقي خارج الاحتلال وتحت الإدارة المصرية حتى الخامس من حزيران من عام 1967 حين احتل الجيش الإسرائيلي الضفة والقطاع.
ومنذ النكبة الفلسطينية التي مرت ذكراها أمس السبت، استقبل قطاع غزة عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين، ومع التزايد الكبير لسكان القطاع ارتفع مجموعهم ليصل إلى نحو مليوني فلسطيني عام 2020 منهم أكثر من 80 في المئة من اللاجئين الذين ينحدر أكثرهم من بئر السبع ومدينة يافا والمجدل وعسقلان.
بقي القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى أن أصبحت تحت إدارة السلطة الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو (غزة- أريحا) في عام 1993م.
في عام 2002 أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "أرييل شارون" احتلال مدن الضفة الغربية في عملية عسكرية أطلق عليها "السور الواقي"، إلا أنه لم يتمكن من دخول القطاع واحتلاله كاملاً لأيام أو أسابيع كما حدث مع مدن الضفة، من دون تكبيده خسائر كبيرة.
ونظراً لكثرة المقاتلين في القطاع من جهة، ولطبيعة الاكتظاظ السكاني المرعب والذي قد يحوّل الاجتياح إلى مجزرة كبيرة لا تحمد عقباها سياسياً، انسحب شارون من القطاع في 2005، بعد تفكيك 17 مستوطنة هي كل المستوطنات المزروعة في غزة.
وبدأ العبء على الاحتلال الإسرائيلي يتنامى ويشتد عقب بدء حماس ومعها الجهاد حرب عصابات ضد قواته مطلع العام 1990، وليستمر القتال ضد الاحتلال بعد ذلك ويأخذ بعداً سيادياً بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في مطلع عام 2006.
هوامش..
- تشكل غزة قرابة 1.33% من مساحة فلسطين. ويبلغ طول شريطها الساحلي 41 كلم، وتمتد على مساحة 360 كلم2.
- تضم غزة 44 تجمعًا سكانيًا أهمها غزة ورفح وخانيونس وبني سهيلا وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة ودير البلح وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا.
- يعد القطاع من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، ويبلغ عدد سكانه نحو مليونين.
- فرضت إسرائيل عام 2006 حصاراً بريّاً وجويّاً وبحريّاً على القطاع، فازدادت معاناة مواطنيه.
- شن الاحتلال 3 حروب كبرى على غزة خلال فترة الحصار في الأعوام 2008 و2012 و2014م (تخللتها هجمات واشتباكات عديدة بين الفينة والأخرى)، حيث دمرت جزءاً من البنى التحتية يصعب إصلاحه نظرًا لاستمرار تضييق الاحتلال الإسرائيلي عليها.