بعد الإفراج عني أواخر عام 2000، واضطرار السلطات، تحت ضغوط دولية، إلى منحي جواز سفر، استخرجه لي حينها "اللواء هشام اختيار"، جاءني اتصال من وزارة الثقافة يبلغني أن لديهم رسائل رسمية تخصني ويفضَّل أن أحضر شخصياً لاستلامها.
هناك أعطوني كدسة أوراق تتضمن دعوة للمشاركة في الدورة العشرين لمهرجان جرش للثقافة والفنون في 25 تموز 2001. الدعوة موقَّعة من الملكة نور، بوصفها رئيسة شرف للمهرجان، وموجهة للسفارة السورية في عمَّان، وأحالتها السفارة بدورها إلى وزارة الخارجية التي أحالتها إلى وزارة الثقافة لكون الشاعر يقع في حقل عملها.
أستوقفتني السلطات على المعبر الحدودي السوري إلى أن أجروا اتصالاتهم وجاءتهم التعليمات بتيسير أمري، بعد أن انتظرني سائق البولمان قرابة ساعة ثم اعتذر لي وأكمل رحلته.
وقفت على الطريق أومئ للسيارات العابرة، فتوقفت إحداها وسألني السائق إلى أين، فقلت إلى عمَّان. قال اصعد، أنا ذاهب إلى مدينة المفرق، وهناك أضعك في مركز انطلاق الباصات إلى عمان.
كان السائق من حوران ولكن لديه جنسية أردنية، وحين سألته لماذا لا يحمل معه ركاباً، قال إنه يعتمد على الطلبات الخاصة ونقل بعض البضائع. فهمت أنه يعمل في التهريب بين الأردن وسوريا.
سألني عن سبب رحلتي إلى عمان، وحين شرحت له تهللت أساريره وهو يقول: عظيم.. حين نصل المعبر الحدودي الأردني سآخذ معي جواز سفرك وأبلغ الضابط المسؤول أنك ضيف مهرجان جرش، فيخلصنا من ورطة الانتظار.
بعد طول انتظار جاء الضابط مع السائق. ألقى عليّ التحية مع ابتسامة مهذبة وهو يقول: عذراً أستاذ. أنا مضطر أن أذهب بجواز سفرك إلى المبنى المجاور، وأعدك أني لن أتأخر.
بعد دقائق عاد الضابط ومعه جواز سفري مع ختم الدخول، وهكذا أكملت طريقي إلى فندق القدس في عمَّان، حيث ينزل ضيوف المهرجان.
خرجتُ صباحاً من دمشق فوصلت بغيتي ليلاً. ما إن فتح موظف الاستقبال جواز سفري حتى هبَّ واقفاً: حضرتك فرج بيرقدار؟
قلقت من سؤال الموظف، ومن ذهابه ملهوفاً إلى الهاتف، ومن حركة يديه التي لا تشي بغير التوتر.
بعد قليل رأيت شخصاً قادماً نحوي بذراعين مفتوحتين: يا أهلاً يا فرج.. شرّفت ونوّرت. كنا خايفين أن السلطات السورية ما تسمحش لك بالمجيء. انت ما تعرفنيش. أنا الروائي المصري عزّت القمحاوي.. الكل فوق في انتظارك.
قلت لعزّت إن موظف الاستقبال كان مضطرباً حين عرف اسمي وأظنه أجرى اتصالات مريبة. ضحك عزت وهو يطمئنني: لا عليك هو مضطرب علشان البخشيش. إحنا اتفقنا معاه إذا بشّرنا بوصولك فله هدية كبيرة.
قال لي عزت أن هناك أصدقاء كثر في انتظارنا الآن في عرين الروائي نبيل سليمان توأم حاتم طيّ. هناك أمضينا ليلة أنس عامرة حتى الفجر.
لم تكن مشاركة شاعر مثلي، أمضى أربعة عشر عاماً في المعتقل، حدثاً عادياً. دعتني القناة الفضائية إلى لقاء على الهواء، على أن ينحصر الحديث بمشاركتي في المهرجان وانطباعاتي عنه، ولكن ما إن بدأت الكلام حتى توقف البثُّ، وظهرت على الشاشة مقطوعة موسيقية. ذكّرتني المذيعة باتفاقنا على تحاشي الحديث عن السجن، فقلت لها أنني لم ولن أتحدث عن السجن، بل كنت أنوي التحدث عن موقع مدينة عمّان التي تستريح على سبعة نهود، أعني سبعة تلال. اعتذرت المذيعة للمشاهدين عن هذا الخلل الفني، وتابعت اللقاء.
التقيت خلال أيام المهرجان بالمذيعة ذات الصوت الساحر هيام حموي التي يعشق صوتها معظم المعتقلين، حتى إن صديقي فاضل الفاضل لم يكن يفوّت حلقة من برنامجها الأسبوعي في إذاعة الشرق، وكانت هيام تمرِّر في ذلك البرنامج رسائل غزل أدبية لا تخص شخصاً محدداً، غير أن صديقي في اليوم التالي يسألني إن كنت استمعت الليلة الماضية لبرنامج هيّام والرسائل التي مرَّرتْها له عن أنها على العهد وتنتظر عودته على أحرّ من الجمر. كان فاضل أمهر من يخترعون القصص والإيحاءات والجماليات واستقراء ما تعنيه هيام برسائلها.
حين طلبت مني هيام إجراء مقابلة لإذاعة الشرق، حدثتها عن جمال حضورها لدى السجناء، وحدثتها بإسهاب عن فاضل واشترطت عليها أن تتحدث معه عبر الهاتف مقابل موافقتي على إجراء المقابلة.
اتصلتُ بفاضل وقلت له إن بجانبي صبية ترغب في محادثته، ثم أعطيت الهاتف لهيام ورحت أتخيّل ملامح فاضل ودهشته وضحكته. لقد كانت هيام في منتهى الرهافة واللطف والتجلّي.
ذهبت معي هيام لترى إن كانت الغرفة ملائمة للتسجيل. هناك حاولتُ فتح حقيبتي لتناول بعض الأوراق غير أن الحقيبة لم تفتح. الحقيبة من النوع الذي لا يفتح إلا ببطاقة خاصة، وقد أعطانيها أحد أبناء إخوتي لأنها أكثر أماناً.
واضح أنه كان هناك محاولة لفتحها بالعنف، ولم تنجح المحاولة إلا أنها تركت آثاراً واضحة على أحد جانبيها.
اكتفيت بإبلاغ إدارة الفندق، وحين سألني الموظف إن كنت أشك بأحد العاملين، قلت: بل أشك بالمخابرات.
بعد ثلاث سنوات قررت الذهاب إلى عمَّان بدون دعوة من أحد. على الحدود الأردنية ذهب جواز سفري ولم يعد. انتهت معاملات كثيرين ممن وصلوا بعدي وأنا أكرر استفساراتي وموظف الجوازات لا يعرف بماذا يجيبني. أخيراً أبلغته أني أريد مقابلة الضابط المناوب وإلا فسأترك لكم الجواز وأعود إلى سوريا.
جاء الضابط المناوب ليبلغني أن جواز سفري صار في عمّان، وأني بعد غد أستطيع أن آخذه من دائرة المخابرات العامة.
ما كتبته عن تجربتي مع المخابرات السورية ينطبق على المخابرات الأردنية بالكليات وبالتفاصيل.
في البداية قابلني ضابط صغير لم يعرف كيف يتعامل مع أسئلتي، فأرسلني إلى ضابط أعلى رتبة وخبرة، ثم أرسلني هذا أيضاً إلى رتبة أعلى. حاول الأخير أن يبدو لطيفاً ودمثاً، وعرض عليَّ كرمه وخدماته في الصحافة والنشر، فالأردن بلدي الثاني على حد قوله، وقد أبدى رغبتنه في أن تكون علاقتنا طيبة ونبقى على تواصل. أبلغته عدم احترامي للمخابرات السورية ولكل شقيقاتها ومثيلاتها. بقي الرجل هادئاً وهو يقول:
- ولكن نحن غير.
- بل نفس الطينة، والدليل وجودي عندكم.
- نحن نأسف على مصادرة جواز سفرك وإحضارك إلى هنا، فقد كان هناك تشابه أسماء ولحسن الحظ زال اللبس وكسبنا التعرُّف على شخصك الكريم.
- قلتَ لي تشابه أسماء؟ كأنك لا تعرف أني منذ ثلاثة أعوام كنتُ مدعواً لمهرجان جرش، وعلى حدودكم أبلغني الضابط المسؤول أنه سيخرج بجواز سفري إلى مبنى مجاور لأن أمري أكبر من أن تبتّه سلطات الحدود، وحين تبين أني ضيف المرجان الذي ترعاه الملكة نور، سُمِح لي بالدخول. منذ ذلك الحين وأنتم تريدونني أنا حصراً، فلماذا؟
كنت أفترض أن يبقوني قيد الاعتقال من أجل جولات أخرى، ولكن يبدو أن الضابط حسم الأمر ورافقني إلى أن استعدت جواز سفري.
حين وصلت إلى سوريا اتصلت بالصديق نجاتي طيارة عضو مجلس الإدارة في جمعية حقوق الإنسان في سوريا، ووضعته بصورة ما حدث مبدياً رغبتي في إصدار بيان من الجمعية يتضمن وقائع ما حدث لي. ولحسن الحظ استجابت الجمعية على الفور. والغريب أن لا أحد من المخابرات السورية فتح الموضوع معي، لا دفاعاً عني ولا تشكيكاً بعمالتي للمخابرات الأردنية "الشقيقة" في الأمور المخابراتية على الأقل إن لم نقل حصراً.