بداية فَلنُشِرْ إلى أنّ مقالنا سيتناول "اللقاء السوري الديمقراطي" أو الجسم السياسي الذي تم الإعلان عنه بعد مؤتمر عام عُقد في برلين يومي: "20 -21 من شهر تشرين الأول الماضي و"دعت إليه ثلاث كتل سياسيّة سوريّة أكثر من 700 شخصيّة وحزب ومنظمة مدنيّة"، وقال المنظمون: إنّ "المؤتمر" جاء ليتوّج جهودا سبقته بنحو سنة.
بداية أخرى نقول: إنّ انهيار عقدنا الاجتماعي -نحن السوريين- جعل من الصعوبة بمكان اتفاقنا على مشتركات دون قبول الاختلاف المبدئي عليها وعقد تسوية حقيقيّة حولها.
وعلى أيّة حال فإنّ "اللقاء" وبحسب تعريفه عن نفسه في موقعه الرسمي: (لا يدّعي تمثيل الشعب السوري أو الثورة السورية) في إشارة إلى أنّ غيره قد ادّعى، أمّا هو فيعرّف نفسه (على أنّه حاملٌ للقيم الديمقراطية الليبرالية التي تتمثّلها غالبية الشعب السوري..) ومن العدل إذن أن نحاول تقديم نقد في ضوء "الديمقراطيّة الليبراليّة" التي غالبا -بحسب رأي الكاتب- كانت ستُفضّل جملة من مثل: "تستحقّها غالبيّة الشّعب السوري" عوضاً عن "تتمثّلها..." كي لا يذهب الذهن إلى أنّ الخطاب السياسي لـ"اللقاء" سيدّعي الوصاية على قيم السوريين!
وعن الأوراق التي أنتجها "اللقاء" فقد تحدّث المسؤولون عنه عن "رؤية سياسيّة" وورقيّات لجميع السوريين الديمقراطيين الليبراليين. وعن مشروعيّة و"قانونيّة" الأوراق فقد أعادها أعضاء من قيادة "اللقاء" إلى دراسات في أسباب الإخفاقات التي وقعت بها تشكيلات معارضة سابقة، واستبيانات وتحليل لهذي الاستبيانات أجرتها لجنة التحضير لـ"اللقاء"، أمّا التصويت على هذه الأوراق فقد تمّ على مراحل في وقت سابق لانعقاد المؤتمر العام في برلين يومي 20 – 21 من الشهر العاشر.
ولإثبات استقلاليّة "اللقاء" فقد كرّر أكثر من تصريح يعود لقيادة "اللقاء" بأنّ تمويل اللقاء كان ذاتيّا في إشارة إلى عدم الرضوخ لإرادة مانحة غير أعضائه.
يتوهّم بعض النخب أنّ الليبراليّة تقتضي فصل المتديّنين والعسكريين على الإطلاق من المجتمع المدني؛ ولعلّنا توهّمنا حضور المشكلة ذاتها حين قرأنا معايير "اللقاء" في توجيه الدعوات واستثناء "الأحزاب الدينيّة"، والعسكر وأردفتها بكلام عن التطرّف!
لقي اللقاء وقياداته وانتخاباته وورقيّاته انتقادات واسعة من جهات انسحبت منه، لكن لعلّ ما نودّ الإشارة إليه هنا أنّنا سنتناول مشكلة تكرّرت في غير عمل مدني سوري من هذا القبيل حتى صار بإمكاننا تسميتها بـ -ظاهرة- يعاني منها وعينا المدني؛ لعلّ فحواها يكمن في ضبابيّة رؤيتنا لـ"المدنيّة" فهي تعني لبعضنا: السكن في المدينة -وهذا ما لن نناقشه- وربّما تعني لبعضنا الآخر: "اللا عسكريّة"، ولآخرين: "اللا دينيّة"، فنقع لاحقاً في مطبّات غير ليبراليّة مدعومة بمزيج من الخلط بين تصورات المستشرقين تجاهنا مترسّب في ممارسات النخب الثقافيّة والسّياسيّة، ومدعومة أيضاً بالمبدأ اللائكي الفرنسي: "فصل الدين -والتراث والوعي ضمناً- عن الدولة والمجتمع" ومن ثمّ يتوهّم بعض النخب أنّ الليبراليّة تقتضي فصل المتديّنين والعسكريّين على الإطلاق من المجتمع المدني؛ ولعلّنا توهّمنا حضور المشكلة ذاتها حين قرأنا معايير "اللقاء" في توجيه الدعوات واستثناء "الأحزاب الدينيّة"، والعسكر وأردفتها بكلام عن التطرّف!
ومن جديد نود التأكيد أنّنا لسنا في صدد الدفاع عن "قوى أمر واقع" لم ينتخبها أحد ولم يكلّفها مجتمع مدني؛ إنّما غايتنا توضيح التناقض الذي تكرّر وقوع المبادرات المدنيّة فيه وربّما كرّرها اللقاء الأخير: حين خلط في دعوته لـ"مستقلين، كتل وأحزاب سياسيّة، منظمات بحثيّة وأخرى مدنيّة" لتشكيل هيئة عامة لتيار سياسي يستند إليها في إنتاج شرعيّة عمله السّياسي؛ في خط غير محسوب -برأينا- بين مستويات التمثيل المدني والسياسي!
تاريخيّا: كان الانتقال من الدولة الدينيّة إلى دولة الحقوق المدنيّة التي أُنشِئت لأجلها "الحكومة المدنيّة" هو اعتراف بحريّة الإنسان الفرد وبمصالحه الزمانيّة، وبحقّ سلطة إدارته في تعيين مصالحه.
أمّا حق التملّك، وحق حماية النفس فهي من الحقوق الطبيعيّة للفرد، في حين أنّ حقوقه المدنيّة -من وجهة نظر ليبراليّة- فهي ذاتها حقوقه الطبيعيّة بعد تهذيبها وقوننتها كي لا تصطدم حقوق الأفراد بعضها ببعض. فحق الحصول على الحماية مثلا هو ذاته الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس والملك، وكي لا يقوم كل فرد بذاته باستخدام العنف فقد وضع الأفراد المدنيّون قانونا وكلّفوا "حكومة مدنيّة" بأجهزتها القضائيّة والأمنيّة والعسكريّة للقيام بهذه المهمّة؛ وبهذا المعنى فالشرطة والعسكر -الموظّفون لدى السّيد المدني- إنّما هم بأشخاصهم وبصفاتهم الاعتباريّة جزء من المجتمع المدني.
ولأنّ الدفاع عن الحقوق المدنيّة لا يتم بواسطة العنف فحسب بل يتم عبر التفاوض أيضا فقد وُلِد المجتمع السياسي للدفاع -عبر التفاوض- عن الحقوق السياسيّة التي هي بطبيعة الحال مستوى من مستويات الحقوق المدنيّة لا غير!
ولأنّ جزءا من سلطة الفرد تمّ تفويض السياسي بها -بمدّة مشروطة- للدفاع عن الحقوق المدنيّة سياسيّا، ولأنّ الفرد يحتاج إلى استبدال السياسي أو إعادة منحه تفويضا جديدا بين فترة وأخرى؛ فقد استبقى الفرد المدني النسبة الكبرى من سلطته بيده ليمارسها في المجتمع المدني. وعلى ذلك لا يتناقض كون الفرد: مدنيا ذا حقوق سياسيّة.
ولأنّ لكلّ فرد من أفراد العقد الاجتماعي ثلاثة مستويات من الحقوق: الطبيعيّة والمدنيّة ثم السياسيّة المدنيّة؛ ولأنّ الحق السياسي حق أصيل فلا يعتبر الاستيلاء على الحق السياسي للفرد أو مجموع الأفراد عملا سياسيّا مدنيّا -ليبراليّا- مشروعا؛ بل استبداد!
من جهة أخرى ولأنّ المؤسّسة السياسيّة المدنيّة -الليبراليّة- مبنيّة على أساس مساواة الفرد لأي فرد آخر في الحق فإنّ للفرد المدني الواحد فرصة واحدة لا أكثر لتمثيل حقّه السياسي، ومن ثمّ فإنّ تكليف الفرد لأكثر من جهة سياسيّة لتمثيله سياسيّا -كأن يكون عضو هيئة عامة هنا وعضو هيئة أخرى في مكان آخر- يعتبر خلطا يمكن أن يقع به "اللقاء" الذي خلط بين مستقلين ومنظمات مدنيّة وأحزاب سياسيّة في تشكيل هيئته العامّة!
"كوتا" المكوّنات لم يقبل بها "اللقاء السوري الديمقراطي" -ونعتقد أنّه أصاب- لكنّ "الكوتا" مصمّمة لتحسين ظروف الفئات غير القادرة على المنافسة السّياسيّة -كالمرأة في ظل المجتمع السوري- وليست مخصّصة بحال من الأحوال لـ"اللجنة التحضيريّة"؛ لأنّ أعضاء اللجنة منتمون إلى تيّارات سياسيّة أعدّت للقاء وحصلت على مقاعد فيه، ويفترض أنّ تيّاراتهم تمثّلهم!
نحن بلا عقد اجتماعي ولإنجازه لا بدّ من مبادرات مدنيّة متعدّدة؛ لكنّنا لا نتردد في القول الصريح: إنّ نظام الأسد كما بقيّة قوى الأمر الواقع إنما هي قوى غير مدنيّة، ومن ثمّ فإنّ العنف الذي تستخدمه عنف غير قانوني
وإذا استثنينا اللائكيّة الفرنسيّة ذات النزوع الجمهوري لا الليبرالي فإنّ الديمقراطيّة الليبراليّة لا تتدخّل في دين الفرد ولا تستثني الجماعة الدينيّة من المجتمع المدني؛ بل تقبل على سبيل المثال السوري الدرزي أو العلوي أو السنّي دون تمييزه -لا إيجابا ولا سلبا- دينيّا، اللهمّ إلّا إن كان المستبعد -فردا أو جماعة- صاحب طرح غير زماني -ميتافيزيقي لا يمكن تعيينه- ومن ثمّ يتم استبعاده مع ذكر علّة الاستبعاد!
في النهاية نحن بلا عقد اجتماعي ولإنجازه لا بدّ من مبادرات مدنيّة متعدّدة؛ لكنّنا لا نتردد في القول الصريح: إنّ نظام الأسد كما بقيّة قوى الأمر الواقع إنما هي قوى غير مدنيّة، ومن ثمّ فإنّ العنف الذي تستخدمه عنف غير قانوني، وأنّ ما تبقى هو لمبادرة مدنيّة شجاعة يمكنها التمييز بين "عنف" مشروع مارسه السوريّون دفاعا عن النفس والملك، وبين عنف إرهاب كانت غايته القتل والسّلب؛ وهذا مرهون بمعايير سوريّة محلّيّة لديمقراطيّة ليبراليّة يستحقّها السوريّون، تؤسّس لعدالة انتقاليّة، وتعمل للاتفاق على "عقد اجتماعي" جديد.