لا أدري إن كان من حسن الحظ أن تكون صحفيا عاملا بالشأن السوري، ما يمنحك أفقا قد يكون أوسع وأرحب، خصوصا إن عملت في شطري المعادلة، وطُحنت كما طُحن الملايين في سبيل الوصول إلى هدف قد يكون سرابا في بعض الأحيان، لكنه فضيلا في جميع الأوقات.
يخرج دليل جديد على واحدة من الفظائع المستمرة بحق السوريين المتمثلة بالاعتقال أو اقتحام المناطق وسوق أهلها إما لغياهب التهجير والتشرد أو إلى أقبية الموت البطيء، وإلا ستكون مساقا إلى حتفك عن طريق الميليشيا التي أخذت شكل الدولة عنوة، وظنت أنها كذلك وتتعامل على أساس مؤسسات بأساليب مافيويّة مثخنة بالطائفية.
لا أدري إن كان من حسن الحظ أن تكون صحفيا عاملا بالشأن السوري، ما يمنحك أفقا قد يكون أوسع وأرحب، خصوصا إن عملت في شطري المعادلة، وطحنت كما طحن الملايين في سبيل الوصول إلى هدف قد يكون سرابا
هل هو من سوء الحظ أو من الأهمية بمكان أن تتاح لك فرصة الاطلاع على تسجيل مدته دقائق معدودات تشاهد فيه جثامين فوق بعضها البعض، ويقطعه مشهد سوق رجال بطريقة لا يمكن وصفها، مكبلين بطريقة بدائية، معصوبي الأعين بلاصق شفاف، قد يكون حجم الألم النفسي والجسدي ولحظات الرعب تلك، أسهل بألف مرة من صوت الرصاصة ومسيرتها غير الطويلة نحو الأجساد بعد رميها في حفرة الجثامين، لتنهي حياة بائسة كيفما كانت، فهنا أرض البؤس.
يفجر التسجيل الذي نشرته صحيفة “غارديان”، بالتشارك مع وسائل إعلام أخرى، كميات قد لا يطيقها أي إنسان من الحنق والغضب على كل ما في الأرض من منظومات وأنظمة، رضت بالتعامل ودعم الميليشيا الحاكمة في سوريا، وحتى تلك التي لا تزال تبحث عن وسائل إبداله، أو على تقدير الحفاظ على مسافة شاسعة بينها وبينه منعا للتلوث بدماء الآلاف الذين لحظنا عملية تصفيتهم، وكذلك المجهولين، والناجين والمصطفين على قوائم الموت الجسدي بعد فراق الروح لهم بفقدان قريب أو عزيز، أم منهكات النزوح واللجوء.
في تلك الدقائق (دقائق الإعدامات في حي التضامن) تنهار كل القوة المتولدة من مواصلة متابعة المشاهد في سوريا، والتي يظن معها الصحفي أنه بات محصنا من انقباض القلب وضيق النفس، ففجأة ينهار كل ما جُمع عبر السنوات، لتطرح تساؤلات لا تنتهي، وتفكر بشعور وأحاسيس المنساقين إلى الموت بتلك الطريقة، وعن حجم ما يعانيه أهلهم سواء الواحد والأربعون شخصا الذين اقتنصت العدسة في لحظة نشوة وإثبات ولاء للأسد ومنظومته، كلحظة انتقام مقتل شخص في مطحنة الحرية السورية.
في تلك الدقائق (دقائق الإعدامات في حي التضامن) تنهار كل القوة المتولدة من مواصلة متابعة المشاهد في سوريا، والتي يظن معها الصحفي أنه بات محصنا من انقباض القلب وضيق النفس
أعاود مشاهدة التسجيل الذي قد يكون وصل لنا بمحض المصادفة، أم القدر ساقه إلينا ولغيرنا، كفرصة لنعاود التفكير مليا في المسيرة التي فُرضت علينا كسوريين، وتقضي بالوقت عينه على أي لحظة تشكيك لسوء ما واجهناه أو غياب أي نهاية موفقة لكل عمل قمنا على جميع المستويات، ونطوي كل لحظات الوهن ومرارة الخسائر، فمثل ما نشر اليوم هو عبارة عن أداة لإعادة شحن الطاقة لمواصلة البدايات الطاهرة لأجمل ما حدث وأقبح ما قوبل به.
من صور قيصر إلى التسجيلات التي تاهت في حوافظ المعلومات بعيدا عن الأعين، والشهود الأحياء، يواصل الملف الأقوى غيابه عن طاولات الساسة، فيذكر على خجل، حتى بات سطرا في نصوص لا تساوي الحبر الذي كتبت به، أو المساحات التي تأخذها في الفضاء الافتراضي.
تعجز الدول والمنظمات إلى يومنا هذا عن خلق الفرصة لآلية حساب حقيقة وفاعلة، للمساءلة وملاحقة كل فعل أو كل من أصدر أمرا أو حرض عليه، فلعنة التضامن وغيرها مما سمعنا عنه أو لم نسمع إلى الآن، ستلاحق الجميع، وستكون أشد علينا إذا ما قرر البعض المهادنة أو طي الملف أو الحفاظ عليه كبند تفاوضي.