كتب غوستاف لوبون كتابه "سيكولوجيا الجماهير" الذي قرأه كلٌّ من هتلر وستالين وتشرشل وموسوليني وروزفلت وغيرهم كثير، حيث يؤكد الكتاب نمط استجابة الناس للأزمات، "أنه سرعان ما ينحدر الإنسان عدة درجات في سلم الحضارة" ليندلع الذعر والعنف ونكشف نحن البشر عن طبيعتنا الحقيقية، وهي الميل الأكبر للشر.
وكثيراً ما نجد في كتب مفكرين وفلاسفة سابقين حديثاً عن عودة الإنسان إلى طبيعته الهمجية في الأزمات، ونكرر هذا الكلام بتعابير مختلفة، ساهين عن مراجعة أصل الفكرة ومحاكمتها، هل حقاً كان الإنسان القديم إنسان ما قبل المجتمع الصناعي أكثر همجيةً من الإنسان اليوم؟ إن النبش والحفر في تاريخ الانسان القديم يكاد يؤكد أنه كان أقل همجية من خلفه وأكثر قربا من روح الطبيعة المسالمة.
وكما يؤكد هنري برغسون في كتابه منبعا الأخلاق والدين: "إذا كان التملك نزعةً طبيعيةً في الإنسان، فإن الحرب نتيجةٌ حتميةً لهذه النزعة". ونحن ندرك مقدار تنامي هذه النزعة عند انساننا المعاصر قياسا بسلفه القديم.
يكمن الجواب على هذا السؤال في اطلالةٍ عاجلةٍ على تفاصيل الوقائع الحياتية التي كانت خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الطائرات الألمانية تدمر المدن الإنكليزية بطلعاتها المستمرة، يكتب مؤرخ بريطاني: "أصبح المجتمع البريطاني أقوى من نواحٍ كثيرةٍ بسبب الغارات، وكان تأثير ذلك على هتلر محبطاً"
كما رصد مؤرخون عديدون ما يجري على وجه الحقيقة، زمن الأزمات، فالناس يصبحون أكثر غيرية وأكثر ميلاً للعطاء والمساعدة، وإن وجود فئة من شذاذ الآفاق، ممن ينتهزون هذه الفوضى التي تنشأ زمن الأزمات ليغنموا وينهبوا ويثروا على دماء ومصائب الآخرين، يبقون ندرةً نادرةً، إذا ما قيسوا لملايين الناس الذين تدفعهم الأزمات لمزيد من التماسك الإنساني، وتقاسم الموارد الشحيحة مع الآخرين.
في كتابه "الجنس البشري.. مستقبل مفعم بالأمل" يرصد الكاتب الهولندي الاتجاهين المتقابلين، الذين مثلهما الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588- 1679) في كتابه "اللفياثان" والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712- 1778)، حيث يجد الأول أن الحياة بمجملها ما هي إلا "حرب الكل ضد الكل" في سعارٍ محموم، ويكمن الحل من وجهة نظره في تخلينا عن حريتنا وإسلام أنفسنا جسداً وروحاً، لسلطة ملك متفرد، وقد كانت هذه الفلسفة المرجع المعتمد للكثير من الحكام المستبدين، الذين يرون أن التراخي في سلطتهم المطلقة سيفضي بالحتمية إلى سيادة الفوضى وضياع كل شيء. بينما يجد روسو أن "الإنسان خيِّر بطبيعته، وبسبب مؤسسات المجتمع المدني وحدها يصير البشر أشراراً" (يقصد بها مؤسسات المجتمع الحديث آنذاك).
روتجر بريجمان مؤرخ ومؤلف هولندي شاب، من مواليد عام (1988) نشر أربعة كتب في التاريخ والفلسفة والاقتصاد، بما في ذلك كتاب "يوتوبيا للواقعيين: كيف يمكننا بناء العالم المثالي"، والذي تُرجم إلى اثنين وثلاثين لغة. ظهرت أعماله في الواشنطن بوست والغارديان وبي بي سي. ووصفته الغارديان بأنه "العبقري الهولندي للأفكار الجديدة".
يحدثنا بريجمان عن نظرية القشرة التي تقول: "المدنية الحديثة طبعت البشر المعاصرين بالعنف والنزوع إلى الشر، لكن ما أن تحيق بهم الأزمات حتى تتصدع هذه القشرة الرقيقة ويهرع الناس للتعاون والاهتمام بالمصابين والجرحى والمحتاجين، وهذه القشرة ليست منتجاً عفوياً بريئاً قدمته الحضارة، بل هو فلسفات يدفع بها ويروج لها أصحاب المصالح الكبرى، فالحروب التي يقررها أفراد قلائل يمثلون المصالح الكبرى لشركات أو لمصالح اقتصادية عابرة للقارات اليوم، لا تعبر عن بنية الإنسان الطبيعية بل هي تعبير عن مصالح ضيقة ومسيطرة تفرض على المجتمعات ما ليس من طبيعتها، لننظر اليوم على سبيل المثال إلى ما تفعله الشركات المصنعة للسلاح ولأدوات الحرب المدمرة، إلى شركات التبغ والنفط والمخدرات، انهم يفرضون أنماطاً قهرية يطبعون بها مجتمعات برمتها".
لننظر أيضاً إلى العالم الذي تقدمه شبكات عالمية، مثل هوليود ونتفليكس وأمازون وغيرها كثير، عالم يضج بالعنف والقتل وجرائم الاغتصاب والحروب وغزو الفضاء، معظمها أمور موجودة حقاً، لكنهم يكررون تضخيمها والتهويل منها، ليصار إلى جعل الفرد البشري يعيش فيما يشبه الفأر الخائف المترقب المتوتر دوماً، لأنه بهكذا حال يسهل قياده وتوظيفه وفرض القوانين عليه، أي جعله عبداً فرداً للنظام المتسيّد.
بينما نجد في كثير من المجتمعات الإنسانية، التي ابتعدت قليلا عن مناخات الحرب والتفقير، نزوعاً قوياً إلى الفلسفات والممارسات التي تدفع الإنسان للعودة إلى طبيعته السلمية الخيِّرة، وهاهم ملايين الأوربيين والأميركيين اليوم، حتى من ابتعد منهم عن مفهوم الإيمان الديني يملؤون المعابد البوذية ومراكز التأمل والقبول بالدعوات السلمية والتسامح والمصالحات في المجتمعات المتنازعة، وما هذا إلا شكلاً من أشكال عودة الانسان إلى طبيعته الأصلية.
لن يستطيع هذا الكتاب رغم حججه الهائلة والتي تأنس إليها النفس، في حسم المسألة القديمة "هل الإنسان بطبعه ميال للخير أم للشر؟" فأنصار الرأي الآخر يملكون أيضا آلاف القصص والجرائم والمفاسد التي تدلل على مدى توحش العالم الذي نعيش فيه
تتقاطع رؤية الكاتب مع كثير من الاتجاهات الأنثروبولوجية الحديثة، التي تؤكد أن العنف والإرهاب منتج حداثي، لم يكن في الماضي بهذا الحجم الكارثي الذي ينذر بالخراب في عالم اليوم.
هل كان جان جاك روسو محقاً، أن البشر نبلاء بطبعهم؟ كثيرة هي الوقائع التي يسوقها المؤلف تعزيزاً لهذا الرأي، فالمسافر إلى جزر الباهاما عام 1492 يؤكد على مدى مسالمة السكان وكونهم لا يحملون سلاحاً، والقصة التي تتبعها المؤلف في رحلة بحثية طويلة في الجزر الأسترالية حيث جنح زورق صغير بمجموعة من الشبان الطلبة فعاشوا في هذه الجزيرة حياة بعيدة كل البعد عن الخصومات والمنازعات إلى أن انتشلهم قبطان عابر في تلك المياه.
لن يستطيع هذا الكتاب رغم حججه الهائلة والتي تأنس إليها النفس، في حسم المسألة القديمة "هل الإنسان بطبعه ميال للخير أم للشر؟" فأنصار الرأي الآخر يملكون أيضا آلاف القصص والجرائم والمفاسد التي تدلل على مدى توحش هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن كاتبنا يدفع بكل عزيمةٍ تبشيريةٍ لتغيير نظرة من يطالعه تجاه الحياة، فيعزز التفاؤل بغد أجمل، وهذا ما تفعله الثورات التي يبذل أصحابها دمائهم في سبيل انجاحها، للعبور إلى غدٍ أكثر عدالة وأكثر حرية وأكثر جمالاً، ولو تخيلنا عالماً يميل إلى الضفة الأخرى حيث يقرع هوبز طبول الحرب المنذرة بالفوضى والعنف لغدى العالم أكثر قتامةً وأشد بؤساً وتوحشاً.
يخلص الكاتب في خاتمة الكتاب إلى ما يشبه الوصايا العشر، ويسميها "عشر قواعد يجب أن نحيا بها":
- حين يساورك الشك افترض الأفضل
- فكر في سيناريوهات تحقق الفوز لجميع الأطراف
- اطرح المزيد من الأسئلة
- خفف من تقمصك العاطفي وتدرب على التعاطف
- 5-حاول فهم الطرف الآخر وإن لم تفهم دوافعه
- أحب أناسك مثلما يحب الآخرون أناسهم
- تجنب الأخبار
- لا تكلم النازيين
- أفصح عن نفسك لا تخجل من فعل الخير
- كن واقعياً
كتاب الجنس البشري، مستقبل مفعم بالأمل
الكاتب الهولندي روتجر بريجمان وبترجمة محمد أبراهيم الجندي.
صدر عن دار التنوير بيروت 2022