عوامل عدة تضافرت ليشارك فيلم (فلسطين الصغرى) في العديد من المهرجانات السينمائية ويحصد كذلك العديد من الجوائز، فمع أن الحدث السوري شغل قمة أحداث بداية الألفية الثالثة، ومع أن مخيم اليرموك كان في مركز الحدث ذاته، إلا أن عاملاً إضافياً أسهم ليتفوق هذا العمل على غيره من الأعمال التي تناولت مخيم اليرموك ومجمل الأحداث التي دارت فيه منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 حتى تدميره وتهجير آخر ساكنيه منتصف 2018، فقد كان مخرج الفيلم عبد الله الخطيب أحد أبطال الحصار، عايش مجرياته وذاق ويلاته، فليست الفيديوهات المنقولة وحدها مصدر المعلومة، الأمر الذي أعطى للكاميرا حدساً وفراسة في اقتناص الأكثر حساسية والأشد تأثيراً، ولم يكن التركيز على التفاصيل الصغيرة في وجوه الأشخاص وأجسادهم وفي زوايا المكان إلا إدراكاً من المخرج بأن كنه الحصار يكمن فيها.
من عاش أيام الحصار المريرة في مخيم اليرموك يعرف أن المخرج لم يكن خارج دائرة الشأن العام وقتئذ، ولذلك نراه أحد أبطال الفيلم، لكنه ينجو من فخ الذاتية الذي أوقع الكثيرين ممن صنعوا أعمالاً أو كتبوا عن تجاربهم في الثورة السورية، حيث يظهر في مواقف حاسمة قد يكون هو الوحيد الذي عبر عنها، مثل استقالته من الأمم المتحدة أول الفيلم وتعليله لأسباب الحصار السياسية.
نجح عبد الله في الانتقال بين الذاتي والعام ملتفتاً إلى أن الحصار يدمجهما بلا كلفة، فالهموم تتشابه والحكايات تتكرر، ويسقط على ذلك كله رؤية أدبية بإدراج رشيق لمقاطع مختارة من كتابه (قواعد الحصار الأربعون)، وكأنها وصايا تمليها حكمة الحصار ليبقى الإنسان إنساناً وإن لم يعش كذلك.
ضحايا الجوع
بين نصّي المقدمة والخاتمة يعطي عبد الله الكلام بعداً نابضاً أقسى من معناه المجرد، لكي تحظى قائمة أسماء شهداء الجوع في خاتمة الفيلم بوقعها الذابح وتحاط بهالة من الرهبة فتكون أكثر من مجرد أرقام، وهو بذلك يكون وفياً بحق لضحايا الجريمة البطيئة التي كان من المحتمل وبنسبة عالية أن يكون أحد ضحاياها؛ إنها جريمة الحصار التي اقترفها نظام الأسد بحق أهالي منطقة جنوب دمشق نهاية عام 2013 واستمرت لأشهر صعبة، فكانت حصيلتها قرابة مئتي جثة لا تشهد على وحشية الجناة فقط، بل على وحشية هذا العالم الذي لم يحرك ساكناً وهو ينظر إليها تجف ببطء بعيونها الغائرة وجلودها الترابية، ولعل ذلك أبسط ما يمكن قوله عن الأطفال الذين قضوا على تلك الشاكلة، ولم يكونوا قلة.
أجزم أنه كان يبحث في فيلمه عن حقيقة من لحم ودم أفضح وأبلغ مما هي عليه في السرديات، فكيف لنا أن نجعل من يسمعون قصصنا عن الجوع يشعرون بألمه فتعضّهم أمعاؤهم؟ كيف لنا أن نكذّب المثل الشائع: (ما حدا بموت من الجوع)؟ فالجوع أكبر من أن يتخيله أحد من خارجه، لكن عبد الله جمّعه في حكاية غير تمثيلية جردها من أطرافها وسياقها، فقدمها عارية على ألسنة وأجساد ضحاياها الأضعف؛ الأطفال والمسنون، وبلا رحمة رفع ستاراً تحاول جميع القوى إسداله ليبقى المتخيل عن ما وراءه أقل بكثير من حقيقته، حتى إن جذوة ألمه قد تخف في نفوس الناجين أنفسهم، فقد ندافع عن أنفسنا بالنسيان عقب صدمة ممتدة لأشهر، لكن عبد الله يحارب النسيان ذاته، ويقول لنا: "تذكروا يا من كنتم هناك"، وقد نجح في ذلك، ولا أنكر الرعشة التي تلبستني وأنا أرى الشوارع والبنايات والوجوه التي أعرفها جيداً في الفيلم، فقلت في نفسي: "لا أريد أن أنسى".
المسنّون في المخيم
لقد كان للمسنين في مخيم اليرموك دور كبير في كل المراحل التي تتالت منذ قصف النظام الأول للمخيم إلى تنامي (جبهة النصرة) حتى دخول (داعش) ثم القصف الروسي وتدمير المخيم كاملاً.
الفلسطينيون ينظرون إلى مخيم اليرموك على أنه امتداد كامل الأركان لفلسطين، لذلك كان للقضية الفلسطينية مكانها الصريح في الفيلم
وربما يصعب على كثيرين تخيل أن عدداً من المسنين رفضوا مغادرة بيوتهم حتى حين كانت الطائرات الروسية تدك المخيم بلا رحمة، ولا أستطيع أن أفصل ذلك عن شخصية الفلسطيني منذ لجوئه الأول، ولا أعلم إذا كان ذلك سيتكرر نفسه في شخصية السوريين بعد لجوئهم، لكن القضية الفلسطينية كانت حتى آخر رمق فكرة المخيم وعقيدته، والفلسطينيون ينظرون إلى المخيم على أنه امتداد كامل الأركان لفلسطين، لذلك كان للقضية الفلسطينية مكانها الصريح في الفيلم، وطرحت بالوضوح الكامل على أن النظام السوري يقدم ورقة المخيمات الفلسطينية التي لطالما تاجر بها فيقتل أهلها ويدمرها بحيث لا رجعة إليها، وهو بذلك يقضي على حق العودة الذي كان شعار المخيمات الأول، وحين يقدم نظام الأسد ذلك فهو يقدمه كعربون لبقائه في الحكم، أما عبد الله فاستحضر من المسنين الشهود العيان على التهجير الأول من فلسطين على يد الاحتلال ثم على التهجير الثاني على يد النظام في سوريا، فيوحد أعداء القضية ويوجه أصبع اتهامه بشكل صريح.
المرأة في مخيم اليرموك
كذلك كان للمرأة دورها البارز في المخيم، من الصبايا المتطوعات في العمل الإنساني، إلى الأمهات الساعيات وراء طعام أبنائهن، إلى اللواتي واجهن (جبهة النصرة وداعش) بلا خوف، وكانت عائشة الخطيب (أم محمود) أماً لعبد الله، لكنها لم تحظ بدورها الأساسي في الفيلم لهذا السبب، فهي قبل كل شيء كانت من أبرز أبطال المخيم إن لم تكن أبرزهم جميعاً؛ ما زلت أذكر أول يوم التقيتها في بداية 2013 حيث كانت ممرضة متطوعة في مشفى فلسطين توزع الملبس والسكاكر من جيب ثوبها الأبيض، ثم التفتت لرعاية المسنين، وبقيت كذلك حتى تهجيرنا من جنوب دمشق، ولا أتخيل شيئاً يمكن قوله أو كتابته أو صنعه عن مخيم اليرموك من دون التطرق إلى أم محمود، إنها أم فلسطينية أحاطت بنا جميعاً فخففت وقع الحصار على كواهلنا، كذلك النساء اللواتي ظهرن في الفيلم بما يحملنه من عزيمة أثرت فينا جميعاً فصمدنا معهن هناك.
توثيق الجريمة!
الصورة في فيلم (فلسطين الصغرى) أصدق ما يمكن نقله عن الحصار وعن ذكرى مخيم اليرموك الذي سيكون بالنسبة للأجيال القادمة خبراً وحكاية، وقد جمع عبد الله مواد فيلمه من كاميرات وحوافظ كثير من الشباب الذين نشطوا هناك في أصعب الظروف وأقساها، فمنهم من استشهد ومنهم من ساعدته المصادفة على النجاة، ولأن الفيلم أكبر من أن يكون جهداً شخصياً تحتفي شارة نهايته بكثير من الأسماء، ولو استطاع لأورد عبد الله في فيلمه كل من عاش في المخيم في تلك الفترة.
وفي التدحرج الزمني للحصار يوزع عبد الله البطولة، فهي للضحايا، وهي لمخيم اليرموك المكان الأكثر دلالة على الجريمة، وهي للراوي، وهي للذين دافعوا عن الحياة في معمعة الموت اليومي، وهكذا ينفرد بالبطولة الرئيسية -وهذه حال كل جريمة- الجاني نفسه، ويفطن الراوي لضرورة الإلمام بكل مجريات الجرم، فيفصل فيه على ألسنة الأبطال جميعاً، ويحلل جملة الدوافع، كأنه يمسرح الجريمة فلا يترك مجالاً للمجرمين في الدفاع عن وحشيتهم، وبعد أن فقد صانع الفيلم ثقته بالدول والمنظمات والهيئات الدولية –وهذا ما قدمه جلياً في أول مشهد في الفيلم- يقدم مرافعته للرأي العام باسم الضحايا في فيلم طويل وشاق، فإن لم يستطع الانتصاف لهم فقد استطاع توثيق الجريمة على الأقل بشكل واضح لا لبس فيه، وحافظ على حيز زمني صادق ليعلن أن المجرمين لن يكتبوا التاريخ حتى لو انتصروا.