تداول بعض إعلام نظام الأسد ما نقلته وكالة سانا، عن اجتماع وزير داخلية حكومته اللواء محمد الرحمون، بمديري ورؤساء إدارات وفروع الأمن الجنائي ومكافحة المخدرات ومكافحة الاتجار بالبشر بالمحافظات، حيث طلب منهم عدم إذاعة البحث عن الأشخاص، إلا الذين تتوافر ضدهم أدلة تثبت تورطهم بالجريمة، وعدم الاكتفاء بالاعتراف الموجه ضدهم، دون وجود أدلة، وتجنب إصدار بلاغات مراجعة بحق أشخاص، دون توافر المبررات الكافية لذلك.
ولولا ملامح الوجوم العام التي رافقت إعلان رئاسة الجمهورية، إصابة أسماء الأسد بمرض سرطان الدم اللوكيميا، لطنطنت الماكينة الإعلامية بما جاء به الوزير الرحمون، ونسبته إلى سياق خطة، يجري العمل من خلالها، على إشاعة أجواء إيجابية في البلاد، تتضمن تغييرات في بناء وآليات عمل الأجهزة الأمنية!
لم يخل أمر هذا الخبر من تشوش، أصاب صحفيين، وتم نقله للجمهور الغريب عن أحوال السوريين في وطنهم، فبعض هؤلاء حذف كلمة "الجنائي" من عبارة "الأمن الجنائي"، فظهر وكأن الوزير الرحمون، الذي لا يمون حتى على فرع الأمن السياسي، التابع لوزارته نظرياً، يطلب من رؤساء الفروع الأمنية عموماً، ألا يلقوا القبض على المواطنين، إلا بعد توافر الأدلة على تورطهم في جرائم ما. بينما تقتصر الدعوة في كلام أعلى رأس في وزارة الداخلية، على المؤسسات والإدارات التي يقتصر عملها على الجرائم الجنائية، وتتوقف عند هذا الحد فقط.
وللقارئ العربي أو الأجنبي الذي لا يعرف ما كان يجري في سوريا ومازال، أن يتخيل ما جرى طوال عشرات السنين مع مئات الآلاف من المواطنين، الذين أودت بهم الظروف لأن يقعوا في براثن الأمن الجنائي وغيره، بناء على معطيات ناقصة أو تكهنات.
بداية، يمكن اعتبار المطالبات الواردة أعلاه اعترافاً غير مسبوق، بوجود خلل كبير في عمل وزارة الداخلية، إذ يُستنتج مباشرة أن عمل مؤسساتها الأمنية، يقوم على إلقاء القبض على المتهمين، قبل توافر الأدلة على تورطهم، وأنها تعطل حيوات هؤلاء من خلال إذاعة نشرات البحث بهم، حال ورود أسمائهم في سياق التحقيقيات الجنائية! وللقارئ العربي أو الأجنبي الذي لا يعرف ما كان يجري في سوريا ومازال، أن يتخيل ما جرى طوال عشرات السنين مع مئات الآلاف من المواطنين، الذين أودت بهم الظروف لأن يقعوا في براثن الأمن الجنائي وغيره، بناء على معطيات ناقصة أو تكهنات.
ربما سيفغر فاه عندما يعلم بأن هذا السلوك غير القانوني، تحول مع مرور الزمن، إلى آلية عمل، كانت تنتهي عند القرارات الكيفية التي يصدرها أصحاب سلطة التحقيق، أي أن هذا أوجد نافذة مشرعة للفساد، حيث كان المواطن السوري يعرف أنه يتحول من مواطن يمتلك حقوقاً، إلى فريسة تحيط بها سكاكين الفاسدين، بعد أن يلقى القبض عليه لمجرد مرور اسمه في سياق قضية جنائية ما، فلا ينجو إلا بعد أن يدفع الرشى لهذا وذاك!
لكن، هل يمكن لقرار أو تنبيه من وزير الداخلية أن يغير ما ترسخ عبر الزمن، وتحول إلى "سبوبة" يتعيش منها ضباط وصف ضباط الوزارة؟ الإجابة طبعاً هي النفي، ليس لأن هؤلاء خلقوا فاسدين، وسيبقون كذلك، بل لأن عمل المؤسسة الأمنية في سوريا، بُني، ومنذ استولى الأسديون على السلطة، على تجاوزها للقانون، وترسخ على شكل سيف مُسلط على رؤوس المواطنين، مثله مثل كل الإدارات والمؤسسات التي تقوم بمراقبة سلوك الناس، وتحاول معاقبة رافضي ممارسات السلطة، من خلال اتباع سلوك كيفي غير مراقب، ولا يمكن لأحد أن يتابعه، أو يحاسب مرتكبيه!
هذه الجهات لديها من السلطات ما يفوق كل الوزارات والهيئات العامة، وهي فوق القانون، ولا يمكن لأحد أن يتصور خضوعها لقرارات أحد ما، برتبة أقل من رتبة رئيس النظام بشار الأسد.
كما أن كل مرؤوسي الرحمون يعرفون أنهم ليسوا وحدهم في المشهد، بل إنهم الفئة الأضعف أمام الآخرين في المؤسسة الأمنية الأكبر، والمقصود هنا الفروع الأمنية العسكرية والسياسية، التي تتوزع على شعبة المخابرات العسكرية، وإدارة المخابرات الجوية، وإدارة أمن الدولة، وشعبة الأمن السياسي.
هذه الجهات لديها من السلطات ما يفوق كل الوزارات والهيئات العامة، وهي فوق القانون، ولا يمكن لأحد أن يتصور خضوعها لقرارات أحد ما، برتبة أقل من رتبة رئيس النظام بشار الأسد، القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
التشوش المشار إليه أعلاه، ليس أمراً ينتج عن نقص في المعلومات، بل يبدو وكأنه متعمداً، حيث سيوهم الناظر من بعيد بأن الدولة الأمنية التي صنعها الأسد الأب تقلّم أظافرها، تحت ضغط مطالب تغيير الأوضاع في سوريا، بناء على مبادرة قائمة حالياً في جامعة الدول العربية، لكن هل يمكن خداع المعنيين بمثل هذه الأخبار؟
يحاول النظام الترويج لهكذا إجراءات، على أنها خطوات تجري على الأرض، لكن المتضررين من سياساته، وأولهم المواطنون السوريون، يعرفون بأنه مُخادع يحاول الالتفاف على مطالب الآخرين، وأنه لا يجرؤ على تغيير أي شيء في تكوينه، ولاسيما من الناحية الأمنية، فأي خطوة في هذا المجال، حتى وإن ظهرت في الجانب الجنائي، ستُفقده قدرته على سحق الجميع وقمعهم وإرهابهم، ما يعني تهتكه وانهياره في نهاية المطاف.