عن صديقي المعتقل 159والانتخابات الأميركية

2020.11.12 | 23:54 دمشق

thumbs_b_c_4257e5d914aeb4d715c2b82b97d48646.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يحتمل أحمد وجوده في الجماعية الخامسة، نقلوه إليها عنوة قبل أيام بعد أن قضى سنة في الجماعية الرابعة، كان مرتاحا. في الجماعية الخامسة - فرع المخابرات الجوية في دمشق كان أحمد يضطر للنوم جالسا القرفصاء وسط الجماعية محاطا بثلاثمئة جسد، منها المطوي وبعضها المكوم دون أبعاد، والأكثر راحة كان يحظى بساعتي نوم على جنبه مستلقيا، وضعية كان يحظى أحمد بها في الجماعية الرابعة.

كان عاريا تماما منذ عام يستر عورته بقميص أعاره إياه وريث قتيل سابق مات تحت التعذيب وكمدا، القميص كان يلفه كإزار على خصره، ولأن الأرض رطبة وخشنة ولم يأكل سوى الخبز منذ عام، أردافه مهترئة تقطر دما وبقايا جلد متهتك، في الجماعية الرابعة كان يحظى بحضن وترتيل لآيات قرآنية في أذنه من الشيخ "أبو رامي"، يأخذه إلى صدره عندما ينهار أو يكفر بكل شيء ويهدئ من روعه، فقد الشيخ في الجماعية الخامسة، كان مستقلا بأربعين سنتمترا مربعا له وحده يجلس مطويا بها على نفسه يراجع ما قاله في التحقيق ويؤلف روايات مخترعة خصيصا للجلسات القادمة، قد تنجيه من الشبح الطويل إذا صدقه المحقق، في الخامسة كان يقضي معظم الوقت واقفا على قدميه، والوقوف كما يقول يجعل كل الآلام مضاعفة حتى ألم الحبس يصبح مضاعفا.

كان يحتاج لمغامرة رهيبة للعودة إلى الجماعية الرابعة، خطط للمغامرة أثناء وقوفه متكأ على كتف ذات بثور منحها إليه رفيق مل الألم والأنين والنشيج فوقف ليصرخ لم يستطع أن يصرخ، فأذن بالناس فجأة بصوت عال ذي هدير، تلقى شتيمة مباشرة أسكتته، ابتسم وقل أنا موجود إذن. ظل واقفا، ومنح كتفه لأحمد ليلقي رأسه ويدبر.

كان عاريا تماما منذ عام يستر عورته بقميص أعاره إياه وريث قتيل سابق مات تحت التعذيب وكمدا

للعودة كان لا بد من خطوة إضافية، الخروج من الخامسة أولا، فمكان ثانٍ، منه للرابعة، وضع هذه الخطوط العريضة، لا يمكن له أن يسأل السخرة في الجماعية أن يطلبوا من المساعد المسؤول عودته لأن جزاء هذا الطلب قد يصل للموت شبحا أو دهسا بالأقدام، لكن عمليا كان في الخطة ثغرة وهي المكان الثاني فأحمد لا يستطيع أن يتحرك أصلا في مكانه فأين يذهب. اختار المشفى.

النقل للمشفى بالنسبة لمعتقل في سجون الأسد يعني الموت أو عاهة دائمة على الأقل. الذهاب طوعا يعني الانتحار، لكن الجماعية الرابعة كانت مراده. من أجل سنتمتراته الأربعين وحضن الشيخ وترتيله كان يمكن أن يغامر فأحمد منذ اعتقل جرب زنازين وإفراديات كثيرة ولم يستلقِ إلا فيها، أراد أن يموت مستلقيا.

دبر، قرر، حشر إصبعه بحلقه وبظفره الطويل شق سقفه، أعاد العملية ثلاث مرات، رأى دما، سعل بشدة حتى تطاير الدم مع مخاطه وبصاقه، سعل مجددا وأكثر، وصاح خذوني.

أنا مريض سل يا سيدي وأسعل دما، أريد الذهاب للمشفى، قال للمساعد من خلف الباب عبر الطاقة الصغيرة، بعد أن يسر له السخرة الوصول، شتمه المساعد وضرب يده التي مدها يريه الدم من خلال الطاقة وغادر.

يومان، ينادي الطبيب أين مريض السل؟، يخرج يقابله عاريا يرى قروح أردافه، لا يكترث هذا أمر عادي، ماذا عن السل، يسأله. يؤكد له أنه يعرف مرضه لكنه كان يكتم الأمر خوفا من المشفى، لكنه لم يعد يحتمل. يصدقه الطبيب لأن أحدا لن يطلب الذهاب إلى مشفى تشرين أو حرستا العسكريين وهو معافى أو حتى عليل بما يحتمل. أمر بإخراجه.

سأله عن اسمه ليدونه في الإضبارة الورقية التي يحملها، لم يجبه أعاد السؤال ثانية، لم ينس اسمه لكنه فقده، في معتقلات الأسد لا أسماء بل أرقام تعطى وتحفظ ويصبح المعتقل رقما، خاف أن يتلفظ باسمه، فعقوبة ذلك شديدة، نظر إلى المساعد، فأَوْمأ له بأن يجيب، أجاب. طلب الطبيب اسمه الثلاثي، أعطاه إياه لكن اسمه كان طويلا اسم أبوه عبد الرحمن ونسبه العبد الله، لم يتسع بين الحاصرتين في رأس الإضبارة. قال في سره أسماؤنا أكبر من تحصر بين حاصرتين. كتب الطبيب رقمه على الإضبارة.

أخذوه إلى المشفى، ربطوه بالسرير خمسة أيام رأى فيها الدود يخرج من قروحه ويمشي على جسده، لم يكن الدود جديدا لكن في عتمة الجماعية لم يكن يراه، حبة مضاد حيوي كل صباح ومئة سوط. في الصباح الخامس اكتشفوا كذبه ضربوه حتى فقد وعيه، أعادوه للسجن.

على مدخل الجماعيات في قبو فرع المخابرات الجوية بحرستا سأله عناصر السخرة الذين يحملونه بأي جماعية أنت قال في الرابعة، وانتشى بسره. وعندما استعاد وعيه مجددا وجد الشيخ يرتل في أذنه وينكز خاصرته لينتصب، طبيب السجن طلبه، مشى قليلا وحُمل قليلا وصل إلى الباب حيث الطبيب، بصق بوجهه مخاطا كثيرا وشتمه وأمر بضربه ألف سوط.

قضى أحمد في الجماعية تسعة أشهر، ثم نجا صدفة فقد نسيه الجلاد يحفر قبره على جبهة جوبر، والتهى بهاتفه الجوال، بعد أن قتل من أنهى حفر قبره، فهرب.

قابلته قبل أيام في غمرة متابعة العالم للانتخابات الأميركية، سألته من تحبذ أن يفوز في الانتخابات، أي المرشحين تفضل، ضحك طويلا وقال: أنا لا أعرف من الانتخابات إلا تلك التي كان يديرها "أبو عنتر" في السجن، ولا أعرف مرشحين سوى بشار الأسد، ضحكنا معا أضاف أنا مع من لا ينسانا. نحن لا ننسى.