لو انتصف كمال كليتشدار أوغلو لنفسه ومحازبيه، لشكر أردوغان وحمده حمدًا كثيرًا، ليس على منازلته في حلبة الصندوق فارسًا لفارس، بل ولتعطيله عن الفوز بالجولة الأولى، حتى قدّم كلاهما فحص البكالوريا مع الأحرار، وإنما لأمر آخر سنذكره إذا التقت المجامع.
وكان السنفور الغضبان الزابد الراعد الذي يضرب الطاولة بيده، قد استدرك الانتخابات بسلاح الفخر، فتذكر نسبه "العلوي الشريف"، وكان يسمّي نفسه بالباي، فهو يناقض نفسه، فإما من أهل البيت وإما من الفرنجة، والباي لقب يطلق في تركيا على من نسميه الخواجات، ولابسي القبعات، والراطنين باللاتينية، ولو صدّق نفسه، وجب عليه أن يهنئ أردوغان، لا أن يعترف بفوزه على مضض، فهو فوز لا يمكن إنكاره، قد يكون سبب امتضاضه أن دولتين أو ثلاثاً ناصرتا أردوغان، مثل روسيا التي أجلّت بعض ديون الغاز، ومثل قطر التي تعهدت ببناء مسكن لمليون سوري، فالرئيس التركي لا يستطيع أن يتعهد ببنائها من أموال الشعب التركي التي اؤتمن عليها، لكن الغرب كله، بدوله القوية وإعلامه وراياته الخفاقة والخناقة ناصرت السنفور الغاضب، فدعمته بسحب الأصول من البنوك التركية، وجيّشت عليه وسائل التواصل الاجتماعي، وجلبت خيلها الإلكترونية ورجلها الإعلامية، وأن كل الدول العربية التي أخمدت الثورات ناصرت كليتشدار أوغلو، إلا واحدة، ولم يكن الباي "كمال مضاض أوغلو" في اعترافه الامتضاضي بفوزه، مثل حمدين صباحي، فشتان بينهما، وكان صباحي قد قال مدبرًا غير مقبل يشكو الظلم الذي حاق به لمذيعة أوروبية إن منازلته مع السيسي منازلة غير عادلة، وكان يعلم بداهة أنها غير عادلة، ولعله كان سعيدًا بأن يكون جسرًا لعبور الرجل الذي أثار ثلاثين مليون متظاهر في الشارع كذبًا أو طمعًا.
السنفور الغاضب كليتشدار أوغلو كان ينتظر الفوز في الجولتين في ملحمة الصناديق التي لم نر مثلها، وكان ينوي أن يقدّم السوريين قرابين لعرشه
ونقرّ جميعًا أننا لم نكن نعرف الفائز في الانتخابات التركية، وأنَّ السوريين، بل وكثير من اللاجئين العرب في تركيا أعدوا حقائبهم خوفًا من فوز السنفور الغاضب، بل إنَّ أردوغان نفسه عاش على أعصابه، بل إن السنفور الغاضب كليتشدار أوغلو كان ينتظر الفوز في الجولتين في ملحمة الصناديق التي لم نر مثلها، وكان ينوي أن يقدّم السوريين قرابين لعرشه، بل إنه وصفهم بالنفايات، وكاد صحفي مثل ديفيد هيرست أن ينصف أردوغان، لولا أنه عاب الانتخابات لكونها غير مثالية، والمصريون عندما يسخرون يقولون: مثالية هي أمك، فهي منازلة بين شرق وغرب، بين إسطنبول والقسطنطينية، وليست بين حزبين في أميركا مثل الجمهوري والديمقراطي، أو بين حزب العمل وحزب الليكود، وهي أحزاب زيتها في دقيقها.
وقد علمنا أن "سليل آل البيت" طمت به الأمور وعدا طوره، وغالى في الكذب، حتى رفع عدد اللاجئين من أربعة ملايين إلى عشرة، ولو كانت جولة ثالثة لصار اللاجئون أكثر من سكان الصين، ووعد بترحليهم في ثلاثة أشهر بدلًا من سنتين، ونشر أنصاره صورة للصوص يتسلقون الجدار التركي، وأحسب أن السوريين كانوا سيهربون في ثمانية أيام، خوفًا من انتقام أنصاره، ولعله كان سينقلهم بالجرافات أو شاحنات البضائع، والحق أنه وجب على السنفور الغاضب أن يهنئ أردوغان على إنقاذه من عار كان سيناله أبد الدهر، فيوصم بألقاب مثل هتلر الثاني، ومودي تركيا، وكمال موسوليني أوغلو.
هكذا رأينا غضبة أنصار الملكية العربية من فوز أردوغان، مثلهم مثل الذين لم يجدوا في الورد عيبًا فعاتبوه بقولهم يا أحمر الخدين
وقدر رأينا أنصاره يعتدون على السوريين، وضحّوا ببعضهم قرابين انتخابية، بل إنهم اعتدوا على مواطنيهم الترك، فهم لا يصلحون للحكم، وأردوغان من غير شك أصلح منه وأقدر، وأنصاره أكرم من أنصار كليتشدار أوغلو، وكان قد أثار قضايا طائفية، لا تجوز في المبادئ العلمانية المعروفة.
وتدلُّ الفرحة التركية والعربية بفوز أردوغان على ذلك، وعدادات الأصوات والأنفاس التي كنا نتابعها على القنوات التركية، مثل عداد دواليب الحظ واليانصيب، وليس في المنطقة العربية انتخابات صحيحة، وليس فيها أصوات باطلة، بل إن بعض السوريين المصوّتين في الانتخابات السورية كانوا يتباهون بأنهم صوّتوا عدة مرات، وشهير اعتراف أحمد فؤاد نجم بأنه صوّت 16 مرة في انتخابات تمرد، التي جرت على الهواء مباشرة، وهي أغرب انتخابات عربية، وإن فوز أردوغان ليس كفوز فريق كرة قدم، ويظنُّ بعض أصحاب الأمل أنها ستؤثر في الملوك العرب، لكن هيهات، فالملوك العرب وكلهم ملوك، يحمدون الله أن بلادهم ليس بها صندوق أو عنوان.
هكذا رأينا غضبة أنصار الملكية العربية من فوز أردوغان، مثلهم مثل الذين لم يجدوا في الورد عيبًا فعاتبوه بقولهم يا أحمر الخدين، وتباهوا بالأصوات الكثيرة التي حصّلها أوغلو، فكان مثلهم مثل الذي قال فيه الشاعر:
تقول هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير.