"إذا غابت الفكرةُ بزغ الصّنم" بهذا القول علَّل مالك بن نبيّ ظهور الصّنميّة والوثنيّة ــ رغم امتلاك النّاس الفكرة الصّادقة والمنهج الحقّ ــ من جديدٍ في المجتمعات التي تضربها الأمراض الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
ولكنَّ الكارثة لا تكمن فقط في بزوغ الأصنام وعلوّ شأنها، بل في مسارعة الكهنة الذين أوحَوا إلى النّاس بأنّهم منارات الهداية عند اشتداد الظّلمة، وحمَلَة الفكرة الصّادقة وورثة الأنبياء، ليكونوا هم لا سواهم سدنةَ هذه الأصنام، وخادميها الذين ما يفتؤون يشعلون البخور حول الصّنم ويطهّرونه من كلّ نجاسةٍ يتلطّخ بها.
على أنَّ أخطر ما يمارسُه هؤلاء هو استخدام الدّين الذين جاء ليهدم الأصنام، ويمحو الوثنيّة بأشكالها كافّةً، ويحرّر الإنسان من نير العبوديّة للإنسان، ومن ذلّ الرّق للوثن؛ ليكون هو الوسيلة لخدمة هذه الأصنام وإحاطتها بالقداسة وما يتّصل بذلك من تشريعات؛ وهل من كارثةٍ أعظمَ من تسخير الدّين الذي أنزله الله تعالى لتحقيق الحريّة والعدل ليكون خادمًا للظلم والاستعباد والطّغيان؟!
-
الكهنة؛ وإغاثة الوثن الملهوف
كلّما ثار الغبارُ حول وثنٍ من الأوثان التي تفتكُ بالكيان الأقدس؛ الإنسان، وتجعله أرخصَ موجودٍ وأهون مفقودٍ على ظهر البسيطة؛ يسارُع الكهنة بالتّدخّل لإغاثة الوثن الذي لا يطيق الغبار ولو كان غبارًا تثيرُه حوافرُ الكلمات، أو تُطيّرُه شاشات الفضائيّات.
والكهنة هنا هم مجموعةٌ من العلماء تجدهم في كلّ زمانٍ وكلّ مكان، وعلى مائدة كلّ طاغية، ليس لهم توجّه واحدٌ فقط، وليسوا أبناء مدرسةٍ فكريّةٍ بعينها، بل تجدهم في كلّ المدارس الفكريّة، فليس المهمّ عندهم هو الفكرة ولا المدرسة التي ينتمون إليها؛ بل المقدّس الأوحد هو الوثن الذي يجود عليهم بالدَّرِّ أو بالدُّرّ.
وهؤلاء ليسوا هم العلماء كما يحلو للكثيرين من هواة التّعميم بل هم النسبة الأقلّ منهم، ولكنّهم الأشدّ بروزًا وظهورًا، لأنَّ الوثنَ هو من يملكُ مساحات الظّهور وقرارات الإظهار من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ لأنّ غيرهم من العلماء بين صامتٍ خائفٍ أو سلبيٍّ متخاذلٍ أو صادعٍ بالحقّ مطاردٍ أو محبوسٍ أو مضيّقٍ عليه.
-
تسخير الدّين لتقديس الوثن وتشريع الوثنيّة
لا يتوانى الكهنة عن خلع كلّ صفات القداسة على الوثن، وهذا موجودُ في كل المجتمعات الوثنيّة، ولكنّ الخطورة عند كهنةِ اللحية والغترة والجبّة والعمامة أنّهم يقدّسون الوثن باسم الله، وبآيات الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويحشدون كلّ قدراتهم العلميّة واللّغويّة والبلاغيّة لإثبات أنَّ الله تعالى هو الذي قدّس وثنهم، وهنا يتبارى كهنةُ كلّ قطرٍ في التّأكيد على أنّ أوثان البلاد الأخرى ملعونةٌ من الله تعالى ذاته الذي قدّس وثنهم دون سواه من الأوثان.
على أنَّ هناك ما هو أخطر من استخدام الكهنة الدّين في تقديس الأوثان وهو تسخيرُهم الدّين في تشريع الوثنيّة؛ وذلكَ أنَّ الوثنَ مآلُه إلى زوالٍ من واقع النّاس السّياسي أو الاجتماعيّ، فيمكن تحطيمُه أو اقتلاعه أو استبدال صانعيه وثنًا آخر به، لكنّ الوثنيّة فكرةٌ تتغلغلُ في أعماق الوجدان المجتمعي، والعقل الإنسانيّ لا سيما عندما تجد ظروفَها الملائمة، وهي تكون أعظم رسوخًا وأكثر تجذُّرًا حين تلبس ثوب الدّين والمُعتَقَد؛ فيتمّ زرعُها في الأذهان والعقول على أنّها هي مراد الله تعالى، وأنَّها هي التّشريع الذي جاء به المرسلون.
إنّ تسخير الكهنة الدّين لخدمة الوثن والوثنيّة هو من أقبح صور السّفه التي يمكن أن يتلبّس بها منحرفٌ على الإطلاق؛ فمن يبيع دينه بدنياه أقلّ سفاهةً ممّن يبيع دينه بدنيا غيره؛ غيره ـ وليّ الأمر ـ الذي لا ينظر إليه أصلًا إلَّا بصَغَارٍ واحتقارٍ بالغين.
ولئن ظنّ هؤلاء الكهنة أنَّ هذه الأوثان مغنيةٌ عنهم شيئًا فقد جانبوا أدنى قواعد المنطق في تعامل الأوثان مع أحذيتها المُعدّة للسيرِ والخلع عند انتهاء المسير، والتّبديل على حسب طبيعة الدّرب ووعورة الطّريق.
ولئن ظنّت الأوثان أنَّ الكهنة التي تشعل لها البخور هي من ستجلب لهم الأمن والحماية وصمت الجماهير التي يفوق وعيها ما يتصوّره وليّ الأمر؛ فقد ضلّوا عن قانون الله في الأمم؛ فلا أمن للبلاد ولا الخلائق مع أوثان مضلّة، ولا مع كهنةٍ مُضلِّلون ومُضَلَّلون؛ ولذا كانت دعوة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام " رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ".