عن الفجوة بين خطاب الأسد وسياسته مع تركيا

2024.09.17 | 06:47 دمشق

511111111
+A
حجم الخط
-A

سعى وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، إلى جذب الاهتمام في الاجتماع الوزاري العربي الأخير في القاهرة عندما قاطع كلمة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان.

هناك العديد من الدوافع لخطوة المقداد الاستعراضية، وعلى رأسها إفساد القيمة الرمزية لأول حضور تركي لاجتماعات الجامعة منذ ثلاثة عشر عامًا، والتأكيد على أن عودة طبيعية للعلاقات التركية السورية لا يمكن أن تحدث قبل الانسحاب العسكري التركي من سوريا.

مع ذلك، تظهر هذه الخطوة كامتداد للفجوة بين الخطاب الذي ينتهجه النظام مع تركيا، والقائم على رفض أي حوار معها قبل انسحابها وتخليها عن المعارضة، وبين التطبيق الفعلي لهذا الخطاب.

منذ انطلاق مسار الحوار بين الطرفين برعاية روسية نهاية عام 2022، ظهرت أربعة تحوّلات على هذا الخطاب. تمثل الأول بالاجتماعات السرية التي عُقدت بين الجانبين على مستوى استخباري قبل انطلاق مسار موسكو، والذي مهّد الأرضية للتحول الثاني المُتمثل في عقد اجتماعات علنية مع أنقرة على مستوى وزراء الدفاع وقادة الاستخبارات بمشاركة روسية وإيرانية.

أما التحول الثالث، فبرز مع تراجع النظام عن شرط قبول تركيا وضع جدول زمني للانسحاب قبل الشروع في مفاوضات حول التطبيع، ثم التحول الرابع المتمثل بإظهار استعداده للتفاوض على مستوى أمني واستخباري للتفاهم على المبادئ العريضة لعملية التطبيع.

لقد أظهرت أنقرة بوضوح أن فكرة الانسحاب من سوريا غير واردة في المستقبل المنظور وقبل تحقيق ثلاثة شروط وضعتها، وهي معالجة هواجسها الأمنية وإعادة اللاجئين وتحقيق التسوية السياسية للصراع.

أستعرض هذه التحولات للإشارة إلى الكيفية التي يستخدم فيها النظام خطابًا عالي النبرة تجاه أنقرة للتغطية على المرونة التي يُبديها مع الوسيط الروسي لتدشين مشروع التطبيع. ولا أعني بذلك أن الخطاب لا يعكس جدية النظام في رهن أي تطبيع مع تركيا بانسحابها، لأن عودة طبيعية للعلاقات غير واقعية قبل الانسحاب التركي.

وإذا ما نظرنا إلى الاستعراض الذي قام به المقداد من منظور أنه مُصمم للتأكيد على أن عودة طبيعية للعلاقات مع تركيا لا يمكن أن تحصل قبل انسحابها، فهو تأكيد للمؤكد ولا يُغير من حقيقة تجاوز النظام للخطوط التي رسمها لنفسه في مقاربة مسألة الحوار مع تركيا.

لقد أظهرت أنقرة بوضوح أن فكرة الانسحاب من سوريا غير واردة في المستقبل المنظور وقبل تحقيق ثلاثة شروط وضعتها، وهي معالجة هواجسها الأمنية وإعادة اللاجئين وتحقيق التسوية السياسية للصراع.

كما أن النظام بدأ مؤخرًا يُظهر واقعية في مقاربة مشروع التطبيع، من خلال التفاوض على المبادئ العريضة له بدلاً من فرضها كشروط. لا يُمكن تصور أن عملية التفاوض على المبادئ ستكون سهلة وستؤدي إلى نتائج إيجابية فورية، لكنّ مجرد الدخول في هذا المسار سيُظهر الفجوة الكبيرة بين الخطاب الذي ينتهجه النظام وبين الممارسة الفعلية له بشكل أكثر وضوحًا.

وفي الواقع، لا يختلف هذا النهج عن نهج مقاربة العلاقة مع الدول العربية التي أعادت تطبيع علاقاتها مع دمشق في السنوات الأخيرة. صوّر النظام لسنوات دولاً عربية كعدو سوريا ومُجرد أداة في المشروع الأميركي الإسرائيلي لتدمير البلد، لكنه اليوم يحتفي بانفتاح هذه الدول عليه. والسبب ببساطة أن كل ما يعني الأسد في العلاقة مع الخارج هو الحصول على الشرعية والمساعدة الاقتصادية لإعادة إنتاج نظامه.

إن إصرار الأسد على مطلب الانسحاب التركي جدي، لكنّ أولوياته المتمثلة بالحصول على مزيد من الشرعية الإقليمية والمزايا الاقتصادية للتطبيع مع أنقرة واعتقاده بأن مثل هذا التطبيع سيدفعها إلى التخلي عن المبادئ التي طرحتها بخصوص التسوية السياسية للصراع، تُفسر أحد الأسباب التي تدفعه إلى التخلي عن شرط الانسحاب التركي الفوري والجدول الزمني له لتعظيم فرص تدشين مشروع التطبيع.

وهنا يظهر أن الاستعراض السياسي، على غرار مقاطعة المقداد لكلمة فيدان وخطاب الأسد الأخير أمام مجلس الشعب، والذي قدّم فيه مبادئ التطبيع كمتطلبات ضرورية وليس كشروط، لا يهدف فحسب إلى الحفاظ على فرص التطبيع، بل أيضًا للتغطية على الفجوة بين الخطاب والممارسة.

وحقيقة أن أنقرة تجاهلت التعليق على خطوة المقداد تُشير أيضًا إلى إدراكها لأهداف هذا الاستعراض، لأن ما يهمها في نهاية المطاف فرض مقاربتها لمشروع التطبيع.

أصبحت مقاربة تركيا لمشروع التطبيع أكثر قبولًا بالنسبة لدمشق وروسيا، وكذلك الدول العربية التي تسعى للعب دور الوساطة في هذه العملية.

يظهر هدف آخر للخطوة الاستعراضية للمقداد، يتمثل في إظهار اعتراض على خطوات التقارب العربي مع تركيا. كان النظام يُراهن على أن الدول العربية، التي أعادت إصلاح علاقاتها بأنقرة في السنوات الأخيرة كمصر والسعودية والإمارات، لن تُقدم على هذه الخطوة قبل إحداث تركيا تحوّلًا جذريًا في سياستها السورية وسحب قواتها من سوريا. والواقع الآن أن التقارب العربي مع أنقرة ساعدها في تقليص عوامل الضغط العربية على سياستها السورية بشكل كبير. ويعكس ذلك كيف أن الدول العربية وروسيا تُقارب علاقاتها ومصالحها مع أنقرة من منظور مُختلف عن تصور النظام له.

ولا يبدو ذلك مفاجئًا، لأن الدول العربية التي أعادت علاقاتها بدمشق لم تفعل ذلك لزيادة الضغط على السياسة التركية في سوريا. كما أنها لا تزال مُتشككة أصلاً بقدرة النظام على تحقيق أهدافها المُتعددة مثل وقف تجارة الكبتاغون وتقويض الحضور الإيراني في سوريا والدفع باتجاه تحقيق تسوية سياسية للصراع.

في المُحصلة، أصبحت مقاربة تركيا لمشروع التطبيع أكثر قبولًا بالنسبة لدمشق وروسيا، وكذلك الدول العربية التي تسعى للعب دور الوساطة في هذه العملية. وإذا كان المقداد هدف من خلال خطوته الاستعراضية في القاهرة إظهار أن النظام ليس بوارد التخلي عن مطلب الانسحاب التركي، فإن هذا الاستعراض يعكس في الواقع حقيقة أن الجانب الدعائي في خطاب النظام تجاه تركيا يتناقض تمامًا مع الممارسة السياسية له.