تدخل الصبيّة سالي حافظ إلى المصرف الّذي يحجز وديعتها بمسدّس بلاستيكيّ مع دعم من عصبةٍ صغيرةٍ من جماعة حقوق المودعين. تحصل على جزءٍ من وديعتها بالدولار ويتم تكريسها بطلة شعبيّة.
سرعان ما يشرع بعض الفنانين إلى تصويرها كأيقونة ثوريّة ونموذج للطريقة الّتي يجب أن تُدار من خلالها العلاقة مع السلطات الفاسدة والسارقة.
يظهر التناقض الكبير بين ما يُنسب إلى هذه الصبيّة وبين ما كانت تصبو إليه وتدافع عنه. لم تنفك تكرر في المقابلات الّتي أجريت معها أنّ فعلتها لا تنطوي على بطولةٍ ولا تنتمي إلى مجال الخوارق، بل إنّها تعبير واضح عن اليأس التّام، وأنّ الدافع إليها محصور بمعالجة شقيقتها المصابة بالسرطان.
سالي حافظ تريد أن تكون بطلة شقيقتها وحسب، ولم تكن مهتمة بأن تكون بطلتنا ونجمتنا وأيقونتنا. السماح لها بالنجاح في مسعاها، على الرغم من السطوة الأمنيّة العريضة التي يملكها أيّ مصرف، ترتبط بتعزيز هذا النوع من الخصوصيّة الفرديّة وفصلها تمامًا عن الشأن العام، أو خلق سياقات عاطفيّة ووهميّة لا يمكن تسييلها في حراكٍ جماعي.
انتشار الحلول الفرديّة يلغي الدولة والحاجة إليها ويقلّل من احتماليّة إعادة بنائها، وهنا تحديدًا يكمن المشروع الّذي يدفع به حزب الله إلى الواجهة ويدافع عنه ويعتمده
خرجت سالي حافظ من معركتها مع المصرف منتصرةً، لأنّ معنى انتصارها يصبّ في صالح توكيد الفرديّة اليائسة ومشهديّتها الّتي تصنع تفريجًا احتفاليًّا استعراضيًّا يلغي إمكانيّة نشوء احتجاج عام.
انتشار الحلول الفرديّة يلغي الدولة والحاجة إليها ويقلّل من احتماليّة إعادة بنائها، وهنا تحديدًا يكمن المشروع الّذي يدفع به حزب الله إلى الواجهة ويدافع عنه ويعتمده كخشبة خلاص أمام سلسلة الاضطرابات الكبرى الّتي تشتعل في المنطقة والعالم.
يعمد الناس إلى خلق الحلول الخاصّة، إيمانًا منهم بأنّ الدولة لم تعد قائمة. الكهرباء ماتت فيتم اللجوء إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية لمن يستطيع تحمل كلفتها، وبذلك تعفى السلطات من مسؤوليتها من ناحية، ويخرج هؤلاء من دائرة التأثّر بالأزمة، ولا يعودوا معنيّين بالمشاركة في أي إطارٍ مطلبيّ وعام. يصبحون جماعةً ناجيةً منفصلةً عن البلد وشؤونه.
من لا يستطيع بناء عالم خاص عليه أن يغرق في البلد بوصفه فردًا وحيدًا لا حول له ولا قوة. من يملك وديعة في البنك عليه أن يكون متصلًا بشكل من أشكال السلطة أو المناعة الطائفيّة أو العائليّة كي تتاح له فرصة استعادتها.
تعريف القدرة على ممارسة سلوك يائس لا يشمل الجميع، بل يقوم على عملية فرز حادة بين يائسين درجة أولى يمكنهم الدفاع عن يأسهم وبلورته في سلوك عنيف قد ينجح في مساعدتهم على استرداد بعض حقوقهم، وبين يائسين معدمين لا يستطيعون سوى الغرق في يأسهم الموحل الذي يطردهم بشكل تام خارج المشهد.
من هنا يمكن أن يسمح لشخص بالانتصار طالما كان فردًا يدافع عن قصة شخصيّة ولكن التنكيل التي تمارسه السلطات ضدنا ومع أنه يطولنا كأفراد، ولكنّ معناه يتصل بالجماعة وتفكيكها.
من فقد أحد أطرافه أو عينه خلال ثورة تشرين 2019 لم يستطع المكوث طويلا في رمزيّة التعبير عن مشهديّة عامة والنطق باسمها. دخل في التجاهل والنسيان وصار ما حلّ به مشكلته الخاصة غير القابلة للتشارك. ما خلفته مشاركته في الثّورة على جسده تحوّل مع احتراق خريطة المعاني من أثرٍ يخبر عن شأنٍ نضاليّ ويدين السلطات إلى تشويه، أو إلى قصةٍ تصلح للسرد في سهرةٍ خاصة بوصفها تاريخًا عليلًا لا يستطيع الدفاع عن معناه.
سمح هذا المناخ للسلطات بأنّ تلعب مع بعضها ومع الناس لعبة الناشطين الأفراد. من يراقب جلسات إقرار الموازنة يلاحظ أن كلّ النواب وعلى اختلاف تياراتهم وأحزابهم يتكلمون كأفرادٍ وناشطين يخاطبون سلطة غير محددة، وكأنّهم ليسوا صنّاعها وأصحابها.
وعليه صار النواب يحاولون تقمّص صورة المواطن الأعزل الفرد الذي لا يملك من أمره شيئًا، ولكنّه يضمر الاستعداد لاقتحام مصرف ما أن تتاح له الفرصة، وكأنهم يعرفون أن الاستجابة لما يفعله أي مقتحم مصرف كرّست هذا النوع من التلقي وبلورته وجعلته قابلًا للتسويق كبديل عن السياسة وإنتاج القوانين.
النقاش الذي تثيره خطابات النواب يحرص على أن يجعلهم أفرادا يائسين يخاطبون سلطات جائرة لأجلنا، ويجعلنا في موقع متفرجين عاجزين لا يحركهم أي حدث مهما كان فظيعًا كما جرى حين كان السوري بشار عبد السعود الذي يشبهنا ويمثلنا يموت تحت التعذيب في أروقة جهاز أمن الدولة الذي يفترض به حمايتنا.
بشار كان قريننا وشبيهنا. موته تحت التعذيب يمثل المصير الذي نساق اليه، ولكنّه لم يستطع أن يكون بطلنا، بل كان مجرد ضحيّة أخرى تستجرّ تعاطفًا محدودًا وضيّقًا.
السبب أن تعريف البطل الذي تم تصنيعه وتعميمه يرتبط بالنزوع إلى العنف أو القدرة على ممارسته. هكذا يتمكّن العنف الأصليّ الّذي ينتجه الحزب الإلهيّ الغالب ويتم السماح بخروج ظلال كاريكاتوريّة له إلى واجهة المشهد في ظروف تخدم تعزيز سطوته.
الفردية التي نعزّزها في تناول الشأن العام تعني قبل كل شيء أنّ انتصاراتنا الممكنة ستكون على غرار انتصار سالي الذي يعنيها وحدها
لم ينتبه اللبنانيون في غمرة نشوتهم بالانتصار الوهميّ على المصارف إلى هول ما يجري، وأن تجاهلهم وردود أفعالهم الهزيلة أمام فداحة الجريمة التي حلت ببشار وقبله بكثير من الثوار والمعارضين، إنّما تعني أنّ الهزيمة باتت شاملة وأنّ السلطات قد جعلتنا شركاء فاعلين في جريمتها ضدنا.
الفردية التي نعزّزها في تناول الشأن العام تعني قبل كل شيء أنّ انتصاراتنا الممكنة ستكون على غرار انتصار سالي الذي يعنيها وحدها، والّذي جعل من العنف اليائس والعاجز والمهزوم سلفًا تعريفًا حاسمًا للشأن العام، في حين أن المصير الفعلي والذي لا شك في متانته يرسم بصلابة على جثة بشار وعلى جثث كثير من اللبنانيّين.
نُعذّب ونُقتل كأفراد بينما المقصود قتل الجماعة في سياق مشروع لم تكن السلطة قادرة على تفعيله لولا الشراكة العميقة الّتي نسجتها مع من يفترض بهم معارضتها ومواجهتها.