تصفية الخصوم، أو الاغتيال السياسي أحد أدوات الحرب العتيقة القذرة ويمكن القول إنها من الأساليب التقليدية في التحارب بين الخصوم، قل ما تجد أعداء فيما بينهم لم ينهجوا هذا الدرب، لنقل إن الأمر وارد.
أما أنواع المغتالين -المقتولين غيلة وغدرا- فتشمل كل الفئات والطبقات وترجع إلى نوعية المعركة وأهدافها، ومنهم العلماء واليوم في إيران يتم اغتيال عالم نووي اسمه محسن فخري زادة يوصف بأنه أبو البرنامج النووي وبالتالي هو ضربة لمشروعها النووي، ليس أول اغتيال من هذا النوع ولن يكون الأخير، وإن حصرنا في إقليمنا سنجد قائمة طويلة من علماء مصريين وعراقيين وسوريين وغير ذلك، وكانت لإيران نفسها بصمة في العراق من خلال مباشرة قتل العلماء العراقيين أو المساهمة في تصفيتهم بيد غيرها كأميركا وإسرائيل، وكانت المعركة أيضاً إضعاف القدرات العلمية العراقية القادرة على بناء الدولة.
إسرائيل هي المتهمة دائماً والضالعة غالباً، في هذه المرة هي متهة أيضاً بحسب طهران. وحلل البعض أن هذه العملية الأمنية هي بديل عن الحرب التي توعد بها الرئيس الأميركي المنصرف دونالد ترامب، حيث تم اختيار الشق الأمني بدل الضرب المباشر للمواقع، ربما. وربما ما كانت الجعجعة التي أحدثتها واشنطن إلا لتغطية عملية الاغتيال هذه، وربما أيضا أن من نفذ العملية إن كانت إسرائيل أو سواها نفذها خارج مظلة واشنطن -هذا مستبعد- لكن في المحصلة الأمر وقع وأحدث أثراً بالغاً في إيران، فقدان الرجل ليس بالأمر السهل لبرنامجها المحاصر الذي تطمح أن تحوله إلى قنبلة من خلال جهود وركائز محلية كان زادة أحد أهمها.
دون الغوص في تفاصيل العملية نقرأ في ردود الأفعال بعدها ما يمكن اعتباره انقساما تقليديا في الساحة القريبة -العربية-. انقسام بين معسكر واضح المعالم لا يخفي نفسه أو ولاءه لمشروع إيران وما يسمى "المقاومة" الذي يرى في هذه الضربات استهدافا مباشرا له، ومعسكر يناصب إيران العداء من منطلق أنها عدو محتل أسس بأفعاله التخريبية في الدول العربية لقاعدة تناهض وجوده، وبين هذا وذاك تضيع بوصلة البعض، ولهذا سنجد الرد المعلب صار أسهل من قبيل أن الفرحين الشامتين بمقتل أي إيراني "مقاوم" هم بالضرورة متقاطعون مع الطموحات الإسرائيلية مهللون لما تقوم به، مناصرون لإسرائيل. وهذا مبحثنا.
هي قاعدة ذهبية يستخدمها معتنقو فكر "إيران المقاومة" ومحورها والمتعاطفون معه، أغلبهم من المتوارين الرماديين الذين يدعون مناصرة الثورات الشعبية السورية واليمينة والعراقية واللبنانية بأطرها المحلية، أهم دعواهم أن فرقوا بين المحلي والمشروع العابر للأقوام الذي يقف بوجه إسرائيل إنه أكبر من تفاصيلكم، وربما من دمائكم. إن إيرانـهم الواقفة وحيدة في وجه إسرائيل هي البقية الباقية من مشروع تحرير القدس، إنها رأس حربة الأمة.
إيران لا تمثل الأمة ولا مشروعها مشروع المستضعفين وفي المثال -لو كان العالم باكستانيا أو غير إيراني لأجمع الإقليم والأمة على إدانة قتله
لكن هل يمكن في ظل الأوضاع الحالية اعتبار الاغتيال استهدافا للأمة مثلا، أو أنه تقويض لمسعى من الدول المستضعفة للحصول على حقوقها بامتلاك القوة وبالتالي فرض الندية بوجه تغول القوى الكبرى -نعم إننا نرى مثل هذه المواقف- تصادفنا على صفحات التواصل الاجتماعي أو على الشاشات أو قد تضرب وجهك في المقاهي والشوارع حيث تدور النقاشات. الرد على ذلك ببساطة، إيران لا تمثل الأمة ولا مشروعها مشروع المستضعفين وفي المثال -لو كان العالم باكستانيا أو غير إيراني لأجمع الإقليم والأمة على إدانة قتله- أما والعالم ابن الحرس الثوري الإيراني الذي يعيث فسادا مستمرا في العراق وسوريا واليمن ولبنان فهو ابن مشروعه فقط الذي يهدف إلى تطوير البرنامج النووي أوالتسلحي الإيراني وربما السلاح النووي بالتوازي مع خطط توسيع النفوذ في الإقليم لتصبح إيران "وحدها" القوة المسيطرة، بالتالي تشكل تهديدا لخصومها "وحدها" في ساحات غير إيرانية تبدأ من العراق وتمتد إلى سوريا واليمن ولبنان وفلسطين.
إيران اليوم تُستنزف وتضرب ركائز مشاريعها داخليا وخارجيا فبعد أقل من عام على اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس تتلقى ضربة موجعة باغتيال زادة، هذا بلا أدنى شك سيؤثر على خططها "وحدها" لكن في هذه الخطط يشترك الجميع بالأثر لأن المنطقة كلها تتأثر وربما ستتأثر أكثر فيوم شيعت سليماني قتيلا وجدت في قصف مواقع في العراق مهربا لما يمكن اعتباره ردا على قتله، وربما تجد في سوريا أو لبنان أيضا مكان رد على عملية اغتيال زادة، وربما لا تفعل، لكنها تضرب الطبول فقط، وتعلي الصوت وتسمع له صدى في الجحور بالضاحية البيروتية.
مؤلم أن تصل بنا الحال إلى هذه المآلات لكن المؤلم أكثر أن نقع بين عرابَي الخراب في بلادنا -إسرائيل وإيران- وتجد من يهلل لأحدهما ويناصره علنا، وكأن قتلنا وتشريد شعوبنا مفيد لمشروع التحرر، بينما خير المواقف أن تدرك أن عداء إسرائيل والاستعداد لمواجهتها لاتعني بالحتمية قبول ما تفعله إيران أو التعامي عنه، والعكس صحيح، زد على ذلك أن مواجهة أي قاتل لن تتحقق بالاصطفاف مع قاتل آخر -هذا لا يستوي- خاصة وأن معاداة طهران كان خيار حكامها هم من أرسلوا من يقتل ويشق الصف ويناصر الظالم ويرفع الرايات الطائفية بل وجلبوا لتحقيق هذا الهدف من استطاعوا، لم يكونوا يوما في ظهر الشعوب المنكوبة داعما دافعا بل خنجرا.