في إحدى ثانويات بريمن الألمانية بدأت المعلمة إعطاء درس لطلاب الصف السابع، عنوانه (حقوق الإنسان)، تلك الوثيقة التاريخية المهمة التي اتفق عليها ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم عام 1948، في هذه الأثناء عادت بي الذاكرة السورية نحو الوراء، عندما كنت طالباً في ثانوية علي بن أبي طالب في مدينة سلمية، وفي درس الفتوة وبعد إعطاء أمر من عريف الصف المفوّض من قبل سيادة أستاذ الفتوة، الذي عاقبنا بالزحف على البطن في باحة المدرسة الداخلية لمسافة تجاوزت الـ 50 متراً، وذلك كي نكون مستعدين عقائدياً ونفسياً لتحرير فلسطين وكامل الأراضي المحتلة.
في الحقيقة تمزّق يومها لباسنا وضميرنا الإنساني وهو يبحث عن معنى ما لما حدث والغاية منه. انتهت العقوبة، نفضنا الغبار عن لباسنا المدرسي العسكري وردّدنا بصوت واحد وراء العريف نشيد البعث.
قطع شريط ذكرياتي، صوت المعلمة الألمانية وهي تشرح: المادة الخامسة من حقوق الإنسان تنص: "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الإحاطة بالكرامة".
عشنا حياة ممتلئة بالعنف، والعنف المادي والمعنوي أحد مكونات شخصياتنا.
سرح خيالي مجدداً باتجاه ذكرياتي السورية، وتحديداً عندما كنا نهرب من المدرسة، أي ذلك البناء المصمم معمارياً كسجن، ونتسلق جدرانها الغربية المطلة في تلك الأيام على البرية الواسعة، هاربين، باحثين لأنفسنا عن وقت فراغ من دون أوامر. وفي إحدى المرات كان ينتظرنا الموجّه خارح الأسوار، فتم القبض علينا جميعاً ومعاقبتنا بالفصل من المدرسة ثلاثة أيام مع إحضار ولي الأمر بعد أن تلقينا عقوبة الضرب بالعصا مباشرة على أيادينا الغضّة. بالمناسبة ومنذ تلك الأيام في سوريا نظرياً "مممنوع الضرب" وذلك حسب تعليمات وزارة التربية.
قالت مديرة المدرسة الألمانية لأحد الآباء وذلك خلال لقاء مع أهل أحد الطلاب، وكنت يومها أقوم بعملية الترجمة للعربية لمساعدة الأب: هل تعرف أنه سأفقد وظيفتي في المدرسة إذا قمت مثلاً، بضرب أي طفل من أطفالي؟
حاولتُ تذكر عدد العقوبات البدنية والنفسية التي تعرّض لها جيلنا في المدراس! لا أبالغ بالقول، إننا عشنا حياة ممتلئة بالعنف، والعنف المادي والمعنوي أحد مكونات شخصياتنا، وأتذكر تماماً هنا كيف كان يتّم تجهيل الناس من خلال سياسات تعليمية ممنهجة عبر العديد من المواد التدريسية، أهمها مادة القومية.
ومن يقرأ بعين العقل كثيرا من الأفكار الواردة في هذا الكتاب، سيجد خلاصات فكرية عنصرية، ومجموعة غير منظمة من أفكار سياسية فاشية محورها القمع. وكل ذلك مغطى بشعار الوحدة والحرية والإشتراكية.
نعم تغطية تلك الأفكار القومية بالعنصرية بتلك الشعارات كان مقصوداً وغايته تجهيل الناس، فبينما كانت الأفكار في الغرب تتوالد وتُنقد وتتطور، كان هناك من يحنّط سوريا في قالب الأفكار البعثية الأسدية.
كانت الصدمة الحضارية لنا كبيرة مع لحظة وصولنا كلاجئين إلى هذه البلاد.
كانت الغاية هي قمع المجتمع بكامله، لكن خلال عملية القمع الممنهج يتحول المجتمع وأفراده إلى جلادين صغار يتبادلون الأدوار مع الجلاد الكبير، رئيس البلاد. فمعلم الصف بعثياً كان أم لا، كان يرى نفسه قائداً، والأب كذلك، والأم أيضاً في علاقتها مع بناتها، ومدير الدائرة في أي مؤسسة حكومية كان يرى نفسه قائداً. ومن يخضع للرتبة الأعلى، يُخضع الأدنى منه له. فيتوالد القمع ومعه الخضوع ويتمّ قتل الحرية بين أرجل البشر في المجتمع ومؤسساته وفي بناء السلطة الهرمي وشوارعها الداخلية الممتلئة بالفساد.
هكذا عشنا، وهكذا تمت تربيتنا، لذلك كانت الصدمة الحضارية لنا كبيرة مع لحظة وصولنا كلاجئين إلى هذه البلاد، وأول ما لفت نظري هو غياب العشوائيات السكنية في ألمانيا، حيث يسكن الناس في أبنية منظمة تمّ ترخيصها حسب القوانين. والشوارع ومعها كامل البنية التحتية بُنيت بنظافة فنية وأخلاقية بعيداً عن الفساد والفاسدين، فمن المعروف أن مئات الأتوسترادات في ألمانيا يمكن أن تتحول في حالات الطوارئ إلى مهابط للطائرات.
من عاش في القمع السياسي والاجتماعي من الصعب عليه سريعاً التخلص من رواسب وآثار تلك المرحلة، فالإيمان بحقوق الإنسان يحتاج إلى بنية أخلاقية تستوعب معاني ودلالات هذا الإعلان العالمي. لذلك مازلنا نرى قسماً من اللاجئين تائهين فكرياً، متمسكون بالجهل والعادات والتقاليد البالية، يعتقدون أن هذه البلاد تتآمر عليهم وتريد خطف أولادهم منهم، لأنهم يرون في أطفالهم ملكيات لهم، لا بشراً يستحقون الحياة والحرية، ولهم الحقوق والواجبات نفسها.
صحوت مرة أخرى على الدرس الذي تعطيه معلمة الصف، وعلى شرحها لعدد الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان، ومما قالته، أن أي بناء سكني يُبنى دون تقديم كامل الخدمات في داخله لذوي الاحتياجات الخاصة يعتبر أيضاً انتهاكاً لحقوق الإنسان وتمييزاً صارخاً ضد هذه الفئة الاجتماعية.
هنا تماماً تذكرت أرصفة البعث العنصرية وشوارعه وأبنيته التي تمّ بناؤها بجهود الفساد وبرعاية مباشرة من القائد العام للجيش والقوات المسلحة، والحقيقة أنّ كامل البنية التحتية السورية المتبقية، بُنيت مع كامل الإصرار على التمييز ضدّ كل السوريين ومنهم طبعاً ذوي الاحتياجات الخاصة.
فهنا في أوروبا، ذوو الاحتياجات الخاصة وكبار العمر والمرضى والنساء الحوامل لهم الحق في الحصول على مقاعد خاصة بهم في كل وسائل النقل العامة. وفي كل الأبنية الرسمية. كما أنّ بناء الشوارع والأرصفة قد تم تصميمه مسبقاً لتلبية احتياجات هؤلاء أولاً.
فهل يمكن أن يكون الآن للسؤال معنى، كم من العنصرية في داخلنا كمجتمعات وأنظمة، أفراداً وجماعات؟