البث المباشر
"مجبر على الشغل، الظروف المادية صعبة وتحتاج إلى عمل جميع أفراد الأسرة، حتى نستطيع تغطية احتياجاتنا، ومن الصعب العودة إلى المدرسة"، بهذه الكلمات يختصر أحمد رضوان حمادة (15 عاماً) سبب عمله في ورشة حدادة لبلدة احتيملات شمالي حلب.
يرتدي حمادة نظارة وقبّعة لونهما أسود تظهر عليهما غبار المهنة الشاقة، بغية حماية عينيه من الشعاع الناتج عن لحام الحديد الذي يتناثر يمنةً ويسرى كلّما ضغط بمقبضه على (بنسة اللحام)، والقبعة لحماية رأسه من أشعة الشمس الملتهبة في ساعات الظهيرة شديدة الحرارة في شهر تموز الجاري.
واستطاع تعلّم مهنة الحدادة بعد مضي أربع سنوات على عمله، حيث يستخدم معظم معدات الحدادة بكل حرفية رغم نعومة أظافره، ويتنقل بين قطع الحديد الصلبة التي تفوق حجم جسده عدة مرات (سببت له بداية ديسك في فقرات ظهره)، كي يختار القطع المناسبة لصناعة باب حديد مخصّص لغرفة معيشة بحسب طلب أحد الزبائن.
ويتجه الفتى رفقة والده إلى ورشة الحدادة منذ الساعة السابعة صباحاً ويستمر عملهما حتى الساعة السابعة مساءً، حيث يعودان إلى منزلهما في القرية القريبة من خطوط التماس، والتي تبعد كيلومترات معدودة عن منزلهما الواقع تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)".
ينحدر حمادة من قرية سد الشهباء الواقعة تحت سيطرة "قسد"، ويقيم قرب خطوط التماس في منزل أقاربه بقرية طويحينة شرقي مدينة مارع شمالي حلب، منذ ثلاث سنوات، بعدما ارتفعت إيجارات المنازل في المناطق البعيدة عن خطوط التماس.
العمل يبدد أحلام الدراسة
ترك أحمد مقاعد الدراسة في الصف السادس الابتدائي، ولم يستطع العودة إليها رغم محاولاته العمل والدراسة معاً، بسبب رغبته في متابعة تحصيله العلمي، لكن ظروف العمل والمسافة البعيدة بين مكان الإقامة والعمل تسببا في حرمانه من حقّه التعليمي.
يقول والده رضوان محمد حمادة (40) عاماً خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّ "ظروف المعيشة منعت أطفاله من التعليم، لأنه بحاجة إلى مساعد يعينه في عمله في ورشة الحدادة ولا يمكنه وضع عامل معه كونه لا يستطيع دفع جمعيته فهو بالكاد يجني مصاريف المعيشة".
ويضيف أنّ "ابنه الأكبر يبلغ من العمر 17 عاماً ويعمل في منشرة حجر، عمل شاق بأجر بسيط، ففرص العمل نادرة وأجورها قليلة بسبب الطلب الكثير والعرض القليل، لذلك يعمل ثلاثتهم لإعالة الأسرة ورغم ذلك ظروفهم المادية ما تزال متردية".
ويؤمن "حمادة" بأهمية التعليم ودوره في بناء المجتمعات، لأنّه كان يتمنى الحصول على فرصة للدراسة عندما كان صغيراً، لذلك كان يحاول تدريس أطفاله وفق رغبتهما، فالطفل الأول كان يرغب في تخصصه بالعلم الشرعي والثاني في الطب، لكن النزوح وانعدام الاستقرار تسببا في تحطيم أحلامه".
جيل من معيلي الأسر
ينشأ في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي جيلٌ من معيلي الأسر، الذين حملوا على عاتقهم أعباء إعالة أسرهم ومساعدة ذويهم في تأمين احتياجات منازلهم بسنٍ مبكرة، محاولين التأقلم على واقع فرص العمل الضئيلة والشاقة نتيجة الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية التي تعصف بالمنطقة.
فاضل هلال (14 عاماً)، صاحب ورشة لتصليح الدراجات النارية (أكثر وسائل النقل استخداماً في الشمال السوري)، ينحدر من بلدة احتيملات شمالي حلب، التحق منذ أكثر من 6 سنوات في سوق العمل بعد تركه المدرسة لتعلّم مهنة تصليح الدراجات النارية.
ومضى نحو عامين على بدء عمله في ورشته الصغيرة، التي افتتحها بمساعدة والده الذي يعاني من ضيق في صدره وصعوبة في التنفس (مرض الربو)، ولا يستطيع العمل لإعالة عائلته المكونة من خمسة أفراد.
يقول خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: "الظروف المعيشية منعتني من متابعة تعليمي، والدي لا يملك القدرة على العمل وأنا أكبر الأبناء، لذلك التحقت بالعمل في سن مبكرة بهدف تعلم مهنة ومساعدة والدي في مصروف المنزل".
ويضيف أنّ "مرض والده قديم ويترافق مع أزمات حادة، وغير قادرة على الاستمرار في العمل، لذلك يعمل في ورشة تصليح الدراجات النارية بشكل دائم، في حين يقتصر عمل والده على وجوده في المحل لساعات محدودة خلال اليوم".
صبحي هلال - والد الطفل هلال - قال لـ موقع تلفزيون سوريا: "أُجبرنا على تدمير مستقبل أطفالنا الدراسي بأيدينا، لكنها ظروف الحرب"، موضحاً أنّ دوافع منع ابنه من التعليم، لأنّ المدرسة تحتاج إلى فترة زمنية طويلة لقطاف ثمارها والانخراط في سوق العمل، لكن ظرفنا الحالي الأمر يحتاج إلى التضحية في مستقبل الأبناء بغية إعالة الأسرة من خلال تعلّم مهنة يمكن قطاف ثمارها بفترة قصيرة.
عمالة الأطفال ظاهرةٌ شائعة
تُعرف ظاهرة "عمالة الأطفال" بأنّها عمل الطفل دون سن الثامنة عشرة، بأعمال تهدّد سلامته وصحته ورفاهيته، مستغلة ضعفه، وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه، سواء كان هذا العمل قسراً أو طواعيّةً، حيث يُعدُّ الطفل في هذا العمر قاصراً، ولا يمتلك زمام أموره ويحتاج إلى وكيل عنه.
وأينما تلتفت في المنشآت والورشات الصناعية والمحال التجارية وورشات التصليح، تجد عدداً لا يقل عن اثنين من الأطفال دون الثامنة عشر عاماً يعملون في مهن شاقة مختلفة بدلاً من وجودهم في مقاعد الدراسة، التي باتت حلم كثير منهم، لكن سرعان ما يخرج بنتيجة أنّ عمالة الأطفال أمراً شائعاً في سوق العمل السورية ويخفي وجهاً آخراً لجيل من معيلي الأسر يدفع فاتورة طفولته في وقت مبكر.
محمود السندفي - صاحب ورشة لتصليح السيارات (مكنسيان) - في مدينة صوران شمالي حلب، يقول خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّ "أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم الـ15 عاماً يقصدون الورشة التي يعمل بها بشكل يومي، بحثاً عن عمل لإعالة أسرهم".
ويضيف: "يوجد في ورشتي ثلاثة عمال، أكبرهما يبلغ 20 عاماً، الثاني بعمر 16 عاماً، والأخير لا يتجاوز عمره الـ13 عاماً، ولا حاجة لعمال آخرين لذلك لا أوافق على طلبات الأطفال في العمل، بالكاد يغطّي عملي مصاريفي ويوميات العمال".
وتابع: "الأطفال يعملون في مهن شاقة لا تتناسب مع حجم أجسادهم وأعمارهم، ويتعرضون لإصابات جسدية منهم يعاني من انكباس في الفقرات، وبداية ديسك"، مشيراً إلى أن أصحاب مثل تلك المحال يفضّلون تشغيل الأطفال أكثر من الشبّان بسبب أجورهم المتدنية جداً، فأجرة الطفل الأسبوعية تعادل ما يتقاضاه عامل شاب في اليوم.
ويرى قتيبة سعد الدين، مستشار قسم الحماية في مؤسسة إحسان - المنتدى السوري، أنّ العديد من العوامل التي فاقمت ظاهرة عمالة الأطفال في ريف حلب الشمالي، وعلى رأسها الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتراكمة وتحوّل جزء كبير من الأطفال إلى معيلين لأسرهم بسبب فقدان أحد ذويهم.
وقال خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّ "سوء الوضع المادي للأسر وخاصة في المخيمات وعدم وجود عمل لمقدّمي الرعاية، بالإضافة إلى عدد الأفراد الكبير ضمن الأسرة الواحدة وبالتالي ازدياد متطلبات الأسرة وعدم القدرة على تأمينها، يجعل الأطفال تضطر للعمل لمساعدة أسرهم في تلبية احتياجات المعيشة".
وأضاف: "عدد الأطفال في سوق العمل أكثر من الشبان، يعود إلى أن معظم الشباب يهاجرون بشكل كبير خارج سوريا بهدف العمل ومساعدة أسرهم، في ظل انعدام فرص عمل مناسبة، والاستقرار الأمني".
تداعيات عمالة الأطفال
تترك ظاهرة عمالة الأطفال في نفوسهم آثاراً سلبية مدمّرة، ترافق الطفل في مختلف المراحل العمرية، كما أنها تنعكس على المجتمع عموماً وعلى الأطفال بشكل خاص، إذ تنحو عمالة الأطفال منحى الاستغلال من قبل أرباب العمل من خلال تكليفهم بمهام وأعمال تفوق قدراتهم النفسية والبدنية.
في الوقت ذاته يتعرض الأطفال خلال مزاولة عملهم لمختلف أشكال العنف، سواء كان عنفاً جسدياً أو لفظياً، وفق مبررات أرباب العمل بأنه يريد تعليم الطفل مهنة والعقاب والتوبيخ جزء من التعليم في حال أخطأ خلال عمله.
وأشار مستشار قسم الحماية في مؤسسة إحسان، إلى أن وجود الطفل في مهن شاقة تعرضه للتعب والإرهاق وفي بعض الأحيان لإصابات جسدية، إضافة إلى فقدان الأصدقاء والشعور بالوحدة بسبب العمل لساعات طويلة وعدم وجود الوقت للعب والمشاركة مع الأقران، كما يشعر الأطفال الذين يعملون، بالنقص لعدم قدرتهم على متابعة التعليم وبالتالي عدم تعلم القراءة والكتابة.
وتابع: "ساعات العمل الطويلة والإهمال من قبل مقدمي الرعاية (أرباب الأسرة) تزيد من عدد الأطفال الذين تركوا مدرستهم خاصة في المخيمات، حيث ترك العديد من الأطفال المدرسة رغم عدم عملهم نتيجة إهمال الأسر للأطفال وعدم القدرة على تأمين المستلزمات التعليمية".
وعبّر عن تخوفه من تحوّل عمالة الأطفال إلى ظاهرة بعدما بلغت نسبتها قرابة 15%، وتصل إلى 40% في بعض المجتمعات، مما سيؤدي إلى تفشي الجهل مستقبلاً واستغلال الأطفال، ولا بد من معالجة الظاهرة عبر تكثيف جلسات التوعية ودعم الأسر بمشاريع صغيرة يستطيعون من خلالها رعاية أطفالهم دون الحاجة إلى عمل الأطفال.
وكشف فريق "منسقو استجابة سوريا" في حزيران الماضي، أن 85% من الأطفال المتسربين من المدارس شمال غربي سوريا (يبلغ عددهم 318 ألفاً)، يعملون في مهن مختلفة بعضها خطرة، مشيراً إلى أن نسبة التسرب المدرسي والتوجه إلى العمل تبلغ 2 من كل 5 أطفال، وسط توقعات بارتفاعها خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.
