في بداية الثورة السورية، روى الكاتب "بنجامين بارت" في مقال نشرته صحيفة لوموند الفرنسية وترجم موقع الجزيرة مقتطفات منه، أن رئيس المخابرات الجوية لدى النظام السوري، جميل الحسن، طلب من رئيسه أن يسمح له بقتل مليون معارض حتى يضع حدا للاحتجاجات وسيمثل بالنيابة عنه -بشار الأسد- أمام محكمة لاهاي. فهل حقا ثمّة خطة ممنهجة لقتل عدد معين من السوريين؟
الهولوكوست النازي بحق اليهود
يُعرّف الهولوكوست بأنه "اضطهاد ممنهج كانت ترعاه الدولة بغرض قتل حوالي ستة ملايين يهودي من قبل النظام النازي والمتعاونين معه".
وبالطبع هناك تشكيك دائم بالأرقام، وبالأحداث أيضا، فروجيه غارودي في كتابه "الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية" يعتبر "أسطورة الملايين الستة" من ضمن أساطير القرن العشرين ليشكك بالأرقام ويفند الحجج والأقوال، وعموما هو لا ينكر قتلى اليهود، ولا التعامل النازي معهم لكنه يرى أنهم جزء من ضحايا الحرب العالمية، ويبين أن هناك خلطا بين "محارق المـوتى" و "غرف الغـاز"، حيث يؤكد "وجود عدد هـام من هذه المحارق في المعسكرات الهتلريـة لوقف انتشار وباء التيفـوس، وحرق الموتى فيها لا يعني بالطبع الرغبة في إبادة السكان"، وينتقد أيضا إضفاء الطابع المقدس للهولوكوست إذ ينقل عن أحـد الحاخامات قوله "إن إنشاء دولة إسرائيل، هو رد الرب على الهولوكوست".
لكن وبصرف النظر عن التشكيك بالأرقام، فإن تهجير اليهود وقتلهم والقوانين العنصرية التي سنها النازيون أمر لا يستطيع أحد إنكاره، وقد يأتي الإنكار من خلفية التوظيف السياسي للإبادة من خلال إيجاد وطن بديل لليهود في فلسطين، ربما.
مذابح الألمان نتيجة لجنون هتلر
بعد تحييد الاتحاد السوفيتي من خلال ميثاق عدم الاعتداء 1939، غزت ألمانيا بولندا في الأول من سبتمبر عام 1939 لترد عليها بريطانيا وفرنسا بإعلان الحرب على ألمانيا بعد يومين، وبذلك تبدأ فصول الحرب العالمية الثانية.
وبعد سلسلة طويلة من الاشتباكات والانتصارات والخسائر، انتهت الحرب في السابع من أيار 1945 بعد انتحار هتلر وإعلان ألمانيا استسلامها غير المشروط لقوات الحلفاء، ثم للقوات السوفيتية، حيث قُدرت الخسائر البشرية للحرب العالمية الثانية بـ55 مليون شخص حول العالم وهي من أكبر الحروب الهدامة في التاريخ.
ما يهمنا هنا هو حجم خسائر ألمانيا مقارنة بعدد السكان، ففي عام 1939 أي في العام الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية كان عدد سكان ألمانيا يقارب الـ67 مليون نسمة (وهناك إحصاءات كثيرة تشير إلى أن العدد كان يبلغ قرابة 80 مليونا).
أما خسائر ألمانيا فقد كانت التقديرات متفاوتة وغير دقيقة، حتى الأعمال الفنية من مسلسلات وأفلام عكست عدم دقة هذه التقديرات، لأن الجيش الألماني كان يحصي أرقاما تقريبية "لا توهن نفسية الأمة ولا تزعج الزعيم". بقيت الأرقام غير دقيقة حتى أجرى المؤرخ الألماني "روديغر أوفرمانس" بحثا دقيقا في إحصائيات مكتب البحوث العسكرية الألماني ونشر دراسته بعنوان "الخسائر العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية" حيث خلص إلى أن الخسائر الألمانية تقدر بـ 5 ملايين و300 ألف نسمة.
وبحساب نسبة الخسائر البشرية الألمانية مقارنة بعدد السكان في بداية الحرب، وهي فرضية سنعتمدها في بقية الحروب، سنجد أن مقتل الـ5 ملايين و300 ألف من 67 مليون نسمة، شكّل ما نسبته نحو 7.5 بالمئة من السكان الألمان خلال الحرب العالمية الثانية.
ضحايا فلسطين بالأرقام
بيّن تقرير صادر عن الجـهـاز الـمـركـزي للإحصاء الـفلسطيني في الذكرى الحادية والسبعين للنكبة، أن "عدد قتلى الفلسطينيين والعرب منذ النكبة عام 1948 وحتى تاريخ التقرير الصادر في الذكرى الـ73 للنكبة (داخل وخارج فلسطين) بلغ نحو مئة ألف شخص"
وبالعودة لعدد سكان فلسطين عام 1948 سنجدهم بحدود مليوني نسمة، من ضمنهم العرب المقيمون واليهود.
كما يستعرض التقرير أنه خلال النكبة شُرّد نحو 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948.
وبحسبة بسيطة يتبين لنا أنه بحدود 5 بالمئة من السكان قتلوا خلال ما يزيد عن 72 عاما، والنسبة ستنخفض كثيرا إذا حذفنا أعداد العرب واليهود من العدد الكلي للسكان، وكذلك إذا حذفنا عدد قتلى العرب المدافعين عن فلسطين.
الهولوكوست السوري بالأرقام
أي نظام يحترم نفسه يصرح بالخسائر المادية والبشرية أولاً بأول. وإذا كانت حجته أنه في معركة، وبأن نشر الأرقام قد يؤثر على "نفسية الأمة ويضعف هيبة الدولة"، فإن رئيس النظام السوري وفي خطاب القسم، أعلن "انتهاء الحرب والانتصار على المؤامرة الكونية". ومع عودته الأخيرة إلى الجامعة العربية، راح إعلامه يطبّل بالقول إن سوريا "باتجاه التعافي" وأن المعوقات أمام الإعمار تتلاشى.
والغريب في الأمر هو مطالبة رئيس النظام الدول بإعادة الإعمار من دون الإعلان عن حجم الخسائر البشرية. لكن، وبما أنه نظام مافيوي، لن نحظى بأرقام دقيقة وشفافة، على الأقل المتعلّقة بجيشه وقواته الرديفة.
ولعدم وجود أرقام ضمن ما يسمى بـ "الدولة السورية"، سنعتمد أرقام بعض المنظمات والمراصد الحقوقية التي تقدر عدد الضحايا في سوريا -وسطياً- بنحو 600 ألف شخص (حتى منتصف 2021). أما عدد اللاجئين وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فقد بلغ 5 ملايين لاجئ سوري مسجل. وهذا رقم ضخم إذا ما قورن بأرقام اللاجئين الفلسطينيين بحسب التقرير المشار إليه سابقا.
وبحسب المكتب المركزي للإحصاء السوري فإن عدد سكان سوريا في منتصف عام 2011 يقارب الـ21 مليون نسمة، فتكون بذلك نسبة القتلى نحو 3 بالمئة من السكان.
ويشير "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إلى أن هذه الإحصائية للخسائر البشرية، لم تشمل أكثر من 47 ألف قتيل تحت التعذيب في معتقلات نظام بشار الأسد وسجونه، ولا تشمل أكثر من 3200 مختطف من المدنيين والمقاتلين في سجون تنظيم "الدولة"، بالإضافة إلى العديد من الأرقام الأخرى التي لم يصعب توثيقها نتيجة التكتم الشديد على الخسائر البشرية من قبل كافة الأطراف المتقاتلة من جهة، ولصعوبة الوصول إلى بعض المناطق داخل سوريا.
وبالطبع لا تشمل أرقام المنظمات والمراكز والمراصد الحقوقية أعداد الغرقى في البحار أو القتلى نتيجة العنصرية في بلدان الشتات، وقتلى الحدود أثناء الفرار. كما لا تتضمن أيضا أعداد القتلى بسبب انخفاض الرعاية الصحية، وقتلى الأمراض الناتجة عن سوء التغذية مثلا، فسوريا تعتبر من البلدان الستّة الأعلى في معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، فنصف عدد سكانها يعانون من انعدام الأمن الغذائي وفق برنامج الغذاء العالمي، أي ما يعادل 12.1 مليون شخص.
إذن، 3 بالمئة هي نسبة السوريين الذين قضوا منذ بداية الثورة وحتى مطلع حزيران 2021 (مع تثبيت عدد سكان سوريا على 21 مليون).
ولعل خطة قتل مليون سوري كانت أكثر من ذلك بكثير، ولكن الاختلاف كان حول التنفيذ؛ هل هو بالسلاح الكيماوي دفعة واحدة، أم بالتقسيط في المعتقلات والقصف والموت البطيء من خلال سياسة التجويع المتبعة حاليا؟.
اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار لإنشاء مؤسسة للكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسريا في سوريا يعيد إلى أذهاننا أخبارا كثيرة ومتواترة عن تسريبات لوثائق وفاة للمعتقلين تحت التعذيب، إضافة إلى تزوير وقائع وفاة سوريين قتلوا في سجونه أو تحت القصف.
كل ذلك يؤكد فرضية القتل التدريجي المخطط له والممنهج تماما، كما فعل هتلر مع اليهود.
مقارنة وتحليل
كل ما سبق يؤكد أن خطة قتل المليون معارض، قُبلت ونُفذت مع تعديلات بسيطة، منها أن العدد مفتوح وفق سير الاحتجاجات، أيضا يجب أن يكون القتل تدريجيا، وبالخفاء قدر الإمكان. أي أن سياسة النظام هي تنفيذ الخطة بالتقسيط، وما يثبت ذلك سياسة إخفاء الأرقام، وصور قيصر المسربة، وفيديوهات المجازر الجماعية ولعل آخرها مجزرة التضامن. لا يتوقف الأمر عند إخفاء أعداد الضحايا من المدنيين، فالنظام يخفي أرقام الخسائر البشرية من العسكريين في صفوفه أيضا.
ووفقا للأرقام التقريبية التي أوردناها سالفا، والتي لا تعكس الحقيقة من وجهة نظر أكثر المراقبين، نجد أن نسبة ضحايا الحرب السورية الذين قتلوا خلال 11 سنة، بلغت أكثر من 3 بالمئة من عدد السكان، بينما عدد الضحايا في فلسطين شكّل نحو 5 بالمئة من السكان، والذين قتلوا خلال ما يزيد عن 72 عاما، وأن نسبة الخسائر البشرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية بلغت نحو 7.5 بالمئة من عدد السكان.
أي أن نسبة ضحايا الحرب السورية -وفقا للمدة الزمنية- تقترب من ثلثي ضحايا فلسطين، وأقل بقليل من نصف ضحايا ألمانيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
ووفق رؤية المؤرخ الألماني "أوفرمانس" في البحث الذي أشرنا إليه، فإن الخسائر البشرية في سوريا لا بد أن تُحصى في يوم قادم لا محال، وجميع الأطراف ستشارك بذلك الإحصاء بعد زوال نظام الأسد الذي ما يزال يحجب الخسائر البشرية في صفوفه من العسكريين والميليشيات التابعة له، والمدنيين في معتقلاته.
عند ذلك، ربما سنكتشف بأن خسائر الحرب السورية ستفوق خسائر الألمان في الحرب العالمية الأكثر تدميرا عبر التاريخ. وقد تتساوى أعداد الضحايا، وتزيد، على ضحايا الهولوكوست النازي بحق اليهود...