فاز المحامي والحقوقي السوري في فرنسا زهير مارديني بجائزة "ماريان" لحقوق الإنسان لعام 2024، في إطار مساعي الناشطين السوريين والمدافعين عن حقوق الإنسان لرفع صوت القضية السورية عالمياً، وصولاً إلى تحقيق العدالة للسوريين يوماً ما. ومنحت جائزة مبادرة "ماريان" العالمية للمدافعين عن حقوق الإنسان في دورتها لعام 2024 لـ 14 شخصاً من المدافعين عن حقوق الإنسان من مختلف الدول، بينهم السوري زهير مارديني.
وقال زهير مارديني في حوار خاص مع موقع تلفزيون سوريا، إن أي إنجاز فردي سوري، سواء كان مجرد تفوّق دراسي أو مهني فردي وصولاً إلى جائزة عالمية لصالح الشأن العام، يجب أن يُجيّر لصالح دولة القانون المستقبلية في سوريا.
وأضاف مارديني: "أعتبر هذا اليوم يوماً مجيداً في حياتي المهنية والشخصية وقبل كل شيء رصيداً إيجابياً في حساب السوريين الأحرار".
تقدم مارديني عام 2023 بطلب للحصول على جائزة "ماريان" بوصفه مدافعاً عن حقوق الإنسان، لينافس نحو 600 شخص مرشح للجائزة، مشيراً إلى أنه يتم اختيار الفائز بعد فرز الملفات المرشحة من قبل لجنة متخصصة وفق معايير صارمة.
ما هي مبادرة "ماريان" العالمية لحقوق الإنسان؟
هي مبادرة أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2021 بهدف دعم المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان والعمل مع المعنيين والناشطين في حقوق الإنسان بمختلف دول العالم. تحمل الجائزة اسم ماريان، وهي الشعار الوطني للجمهورية الفرنسية، وتجسيد للحرية والعقل. تعرض شعارات وصور ماريان في العديد من الأماكن في فرنسا، وتحتل مكان الشرف في البلديات والمحاكم، وترمز إلى "انتصار الجمهورية". لها تمثال برونزي يطل على ساحة Place de la Nation في باريس.
تعد جائزة ماريان أقوى جائزة في فرنسا ومن أهم الجوائز في أوروبا، وتحتوي على لقاءات مهمة مع مسؤولين فرنسيين وأوروبيين، وتدريب على دورات في مجال حقوق الإنسان والخطابات السياسية، يتضمنها رحلات إلى مقار الاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان.
الحوار كاملاً مع المحامي والحقوقي السوري زهير مارديني:
ألف مبارك من جديد حصولكم على جائزة "ماريان" لحقوق الإنسان، كيف يتم الترشح لهذه الجائزة؟
شكراً لكم، بداية هناك توضيح لا بد منه. إن جائزة مبادرة ماريان التي أنشأتها الرئاسة الفرنسية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان عام 2021 يتم الترشح إليها عبر مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وسفارات فرنسا في العالم. أما فيما يتعلق بالتسمية، فإنه يتم اختيار الفائز بعد فرز الملفات المرشحة من قبل لجنة متخصصة وفق معايير صارمة.
أنت محام مختص بالقانون الدولي العام، لو تحدثنا أكثر عن زهير مارديني ونشاطاته الحقوقية منذ بداية الثورة حتى اليوم؟
عند اندلاع الثورة السورية كنت في مراحل دراستي الأخيرة في كلية الحقوق بدمشق. في حينها كنت مهتماً بقراءات نقدية للموروث الثقافي عموماً، ومشغولاً ببعض مواضيع الفلسفة كالأسئلة الوجودية ونظرية المعرفة بالإضافة إلى الهموم الفردية لمرحلة ما بعد التخرج. كنت أثير وزملائي النقاش حول مسائل فكرية قبل وبعد الثورة عن سبيل الشعوب العربية للتغيير، وقلما كنت ألقى متفاعلاً بعمق، حتى فقدت الأمل في حصول هذا التغيير أو الحصول على إجابات شافية عن سبيله أو إمكانية حدوثه.
لكن عند بداية الثورة شاهدت بأمّ العين إطلاق النار على المتظاهرين العزل وقمع الحراك الطلابي في الجامعات ومنهم أنا شخصياً كطالب وبعض زملائي الذين غيّبتهم السجون؛ أدركت موقناً بأن التأسيس الفكري للمرحلة هو الأساس لتجنب النكوص مجدداً نحو الاستبداد مستقبلاً بأيّ لباس تخفّى وأي مروّية تقفّى. فكانت الثورة بالنسبة لي هي آراء ونظريات المفكرين ورؤاهم نحو المستقبل، خصوصاً بعد ثبوت عدم نفع العقد الاجتماعي الحالي وضرورة تغييره، مع تأييدي لحق الدفاع عن النفس المشروع أمام استمراء قتل الناس في الشوارع، شريطة ألا يُقاد الحراك نحو العنف بما يتجاوز حماية التظاهرات السلمية.
كمحامٍ، لم أوفر جهداً في إسناد الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفاً خلال فترة عملي بدمشق، والقادمين من أقصى المحافظات الشرقية حتى غوطة دمشق، لا سيما حماية ذوي المعتقلين من الاحتيال المنظّم الذي كان يبتزهم للوصول إلى أبنائهم المغيبين في سجون النظام، لا سيما أنني مررت بتجربة اعتقال من على مقاعد الجامعة وأعرف تماماً آلام ولوعة ذوي المعتقلين على أبنائهم وأقربائهم، وكل ذلك على الرغم من الخطورة البالغة التي كادت تودي بي إلى المهالك عدة مرات، ومن نافلة القول أنني نجوت من موت محقق بتفجير قصر العدل بدمشق عام 2017.
عند انتقالي إلى تركيا في مدينة غازي عنتاب، بدأت عملي الخاص بأداء المشورات العقارية ودراسة الملفات وتأمين المستندات الحكومية ومتابعة بعض الدعاوى القانونية في سوريا وتركيا بالتعاون مع بعض الزملاء المحامين الأتراك، وكل ذلك كان الهدف العام منه تعزيز ثقافة دولة القانون، حيث أعتقد أن المنافي والمغتربات هي دورات تأهيلية للسوريين لهذا الغرض.
كما أن حرية الصحافة النسبية في تركيا ساعدتني بالدخول إلى عالم التحرير القانوني والسياسي، حيث شاركت بعشرات المقالات الصحفية والأبحاث القانونية الجامعية فضلاً عن بعض المؤتمرات الفكرية المنظمة من بعض مراكز الأبحاث مساهماً بتعضيد الوعي الجمعي السوري في تركيا من الناحية القانونية وترسيخاً لثقافة دولة القانون المأمولة في سوريا. استمرت هذه النشاطات حتى دخولي إلى فرنسا حيث لم أوفر جهداً متاحاً في هذا المجال إلا وقدمته، سواء بمشاركة قانونية في بعض رسائل الماجستير بعدد من الجامعات الغربية، أو بتقديم الرأي القانوني للصحف والمواقع الإلكترونية المعنية بالشأن السوري.
في الأعوام الماضية حقق السوريون نجاحات مهمة ونالوا جوائز مرموقة، ما أهمية هذه الجائزة من الناحية الحقوقية في فرنسا والعالم؟
فيما يتعلق بذلك، أرى أن أيّ إنجاز فردي سوري، سواء كان مجرد تفوق دراسي أو مهني فردي وصولاً إلى جائزة عالمية لصالح الشأن العام، يجب أن يُجيّر لصالح دولة القانون المستقبلية في سوريا.
وبالخصوص الإنجازات المتعلقة بالعلوم الفكرية منها السياسية والقانونية والاقتصادية لأهميتها البالغة في بناء دولة القانون والمؤسسات مستقبلاً. أعتقد أن معركتنا مع الاستبداد بشتى أشكاله هي معركة فكرية في المقام الأول.
أما بالنسبة لمكانة الجائزة، فهي لا شك من الجوائز المرموقة المقدمة من الرئاسة الفرنسية، حيث يحصل الفائز على اعتراف الجمهورية الفرنسية بصفة (مناضل) ويحظى بدعم ورعاية الدولة الفرنسية لتطوير نفسه ومشاريعه المقدمة لبلده مستقبلاً. شخصياً من الناحية الفكرية، فلا يظنن أحد أن تسميتي فائزاً بهذه الجائزة تجعلني أسلِّم لكل أفكار الحضارة الغربية والإيمان بمطلقيتها وكونيتها سابقاً أو لاحقاً، كما أن هذا الإنجاز لن يكون الأخير. بيد أن هذا لا يمنع من الإقرار أيضاً بصوابية قيم حرية الفكر والتعبير والديمقراطية ومحورية الإنسان وحقوقه التي نتجت عنها وما أعقب ذلك من ثورة صناعية، وهذا مَبحث فكري آخر لا مجال للخوض فيه. فمن الأهمية بمكان أن أقول لكم بأنني أحسب نفسي إنساناً حراً ولن أكون إلا كذلك ما حييت ومهما كانت الأثمان. فلا حُرمة لفكرة أو إيديولوجيا مهما بلغت من قدسية، جميعها تحت محبرة النقد لاستخراج أفضل ما فيها والإشارة إلى مواطن النقص والضعف والنسبية الزمانية والمكانية التي احتوتها، ولعمري لفي هذا النهج عِصمة من حرج أنصار المعسكر الشيوعي من العرب بعد سقوطها في بلادها.
بعد الحديث عن الجائزة، كان لك كلمة في نقابة المحامين، ماذا قلت فيها ولمن أهديت الجائزة؟
تم تسليمي جائزة ماريان في أقدم نقابة محامين في العالم، وهي نقابة محامي باريس، وبيد نقيب محامي باريس السيد بيير هوفمان. أعتبر هذا اليوم يوماً مجيداً في حياتي المهنية والشخصية وقبل كل شيء رصيداً إيجابياً في حساب السوريين الأحرار.
لكن وبكل صدق، كانت أطياف آباء مهنة المحاماة في سوريا حاضرة في وجداني، كرئيس فرع محامي دمشق الأستاذ الراحل إحسان مارديني، والأستاذ هيثم المالح ورفاقهم من فرسان الحراك النقابي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فكانت لي فرصة تاريخية لإلقاء خطاب أمام الحضور الدبلوماسي والمهني الرفيع وإهداء هذه الجائزة لذلك الرعيل المجيد، صاحب البيان الشهير عام 1978 والموقف المهني والوطني المسؤول تجاه سوريا وشعبها وأصحاب النظر البعيد لسوء المآل فيما لو تم تقييد الحياة النقابية. بالإضافة إلى ذلك كان هذا الاستحقاق معطوفاً على السادة المحامين الأحرار في سوريا من المؤمنين بخط الحرية والديمقراطية، من الذين يؤدون عملهم في سوريا ولصالحها العام في أسوأ ظروف سياسية واجتماعية عرفتها البلاد منذ تأسيسها.
كيف تنظر إلى مستقبل سوريا من الناحيتين الحقوقية والقانونية، وهل لديك أمل في تحقيق العدالة والمحاسبة في المستقبل القريب أو البعيد؟
الطريق القانوني طويل وشاقّ ولا ينبغي التراجع عنه لتخلفنا عن ركب الحياة السياسية منذ عقود. فمنذ عام 1963 بدأ التضييق على العمل النقابي في سوريا، وصولاً للحصار الشامل عام 1980، ورافق ذلك تغوّل السلطة التنفيذية. بحساب بسيط نستنتج أن الشعب السوري محروم من الحياة السياسية منذ ما يزيد على نصف قرن، وهذا الوضع له تبعات وصعوبات تترافق مع العودة للحياة السياسية السليمة، ومنها الحياة النقابية وتعدد الأحزاب واستعادة السلطات الثلاث مكانتها الفعلية والمعنوية ضمن هذا السياق، ومنها السلطة القضائية في سوريا المتغوّل عليها بشكل كامل كما هو معروف. كل هذه العوامل أفقدت عموم السوريين مُكنة العمل ضمن مؤسسات خالية من الولاءات والمحسوبيات، وهذا لا ينتقص من تضحياتهم، وإنما يعيب من حرمهم حياتهم السياسية منذ عقود.
وفي هذا الموضوع المهم يُعاب على بعض السوريين المقيمين في دول الغرب منذ عشرات السنين، وهم ليسوا بالقلة العددية أو بحالة ضعف الاقتدار المادي، إهمالهم للطرق القانونية المُتاحة في البلاد الغربية التي أمّنت لهم الحماية واستفادوا من أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية لتثمير أموالهم وتعليم أولادهم بعيداً عن مخاطر الاعتقال وعدم الاستقرار الاقتصادي في سوريا. وأعني هنا الجماعات المُحافظة، التي كما لاحظت من خلال إقامتي بفرنسا، أنها لا تؤمن بدولة قانون مع تبني خطاب معادٍ لقيم الديمقراطية والدول الحديثة لدى بعض أفرادها، وتفضّل إرجاء أمر الجناة إلى خالقهم والانكفاء لحياتهم الخاصة، مؤثرين السلامة الخاصة ضمن عائلات وجمعيات من المناخ الفكري ذاته، والاكتفاء بدعم بعض المشاريع الخيرية لإرضاء الذات في أحسن الأحوال. وهذا إن دلَّ على شيء فيدلّ على المراوحة في المكان من ناحية استيعاب قيم ودور الدولة الحديثة القائمة على المؤسسات والقانون، بل وامتداد هيمنة التيار الأصولي فكرياً من الحياة الاجتماعية للسوريين في المغتربات إلى الوعي السياسي لدى أكثر القطاعات الاجتماعية السورية تنظيماً في دول الغرب.
أخبرتني أنك تعمل في مجالات مختلفة لتأمين لقمة العيش، ما التحديات الرئيسية التي تواجهها كمحام سوري في فرنسا؟
حالياً أعمل عملاً طلابياً صيفياً في منشأة رياضية كمشرف على ملعب، وأؤدي بعض المهام الإدارية، ولا أرى ذلك معيباً البتة، فالعيب أن تكون قادراً على العمل ولا تُقدم عليه. زملائي ورؤسائي في العمل يقدرون جهدي ورأيي في جميع ما أبديه، وهم فخورون بي بسبب حصولي على جائزة ماريان من الرئاسة الفرنسية، حيث غادرت باريس متوجهاً بشكل مباشر لتسلّم عملي الصيفي.
أنت تعيش في فرنسا، وحالياً ظهرت نتائج الانتخابات الفرنسية سبقتها انتخابات أوروبية صعد فيها اليمين المتطرف بشكل غير مسبوق، كيف سيكون أثر ذلك على اللاجئين السوريين في فرنسا؟
إن الأصولية والتطرف لا يقتصران من حيث الوجود على المشرق العربي وشعوبه فقط. وفيما يخص أثره على اللاجئين، فإن الأثر السلبي له سيكون واضحاً من الناحية الاجتماعية، كصعوبة الحصول على فرص العمل، وربما زيادة الصعوبات الإدارية في الحصول على الجنسية الفرنسية، وصولاً لتعديل بعض القوانين فيما يخص الحصول على المساعدات الاجتماعية وزيادة شروط الحصول على السكن الاجتماعي. أما من الناحية القانونية فيما يتعلق بالسلامة الجسدية أو نزع حق الإقامة أو اللجوء، فيكون التضييق محدود الأثر نسبياً في دول مؤسسات وقانون كفرنسا مثالاً. فعندما يتم طرح قانون مخالف للدستور أو مبادئ الجمهورية، هناك طرق لإبطاله عن طريق المجلس الدستوري الذي يفحص دستورية القوانين أو حتى عبر القضاء العادي في بعض الحالات. وإن الفصل بين السلطات وتوازنها من سمات الدول الديمقراطية، وأرى تناسبها العكسي مع اتخاذ إجراءات أو تبني قوانين تخلّ بالتزامها على سبيل المثال معاهدة حماية اللاجئين لعام 1951 أو اتفاقيات حقوق الإنسان. بالمجمل، أعتقد أن وصول اليمين المتطرف للسلطة أو حيازته كتلةً برلمانيةً ذاتَ أغلبية نسبية مؤثرة لن يكون لصالح المهاجرين واللاجئين على الأقل من الناحية الإدارية والاجتماعية.
بيد أن النكوص نحو التطرف أو الرجوع إلى الإحيائية كفكر له أسبابه الاجتماعية والفلسفية، وهو من المشكلات المُثارة في نقد مرحلة ما بعد الحداثة، لإتيان هذه المرحلة بنسف أسس اجتماعية وعقدية ضاربة الجذور في القدم وفي وجدان الشعوب، بالإضافة إلى نقدها أفكار الحداثة كمرحلة فكرية سابقة لها، مما قد يُحدث هزّة فكرية على مستوى الوعي الجمعي للشعوب الباحثة عن الهوية واليقين في ما تعتقد، هرباً من حُمى السؤال والقلق الوجودي التي يتميز بها الكائن البشري.