قبل أن يصبح سامر رضوان (سيناريست) كانت تجربته الأساسية في الكتابة هي الشعر، مع أن له محاولات أولى في القصة القصيرة، لكنه تجلى في خطواته الأولى من خلال القصيدة الحديثة. فقد أصدر الأعمال التالية: (تشكيلات لمولد الحصار - آخرُ ما أبدعته الكناية - غرفة من ندم) وبعد أن انشغل بالسيناريو أخذ منه ذلك وقتا كاملا شغله عن القصيدة لأنها عمل فرديّ يحتاج مناخا آخر غير مناخ تجربة السيناريو وتفاصيله الفنية واليومية. وهذه القراءة النقدية هنا تستعيد ديوانه الأول (تشكيلات لمولد الحصار) وذلك بمعزل عن (كاتب السيناريو) ولكن لنتلمّس أيضا بذور مواقفه الأخلاقية من القضايا السياسية.
(طرائق شعرية) ليس هذا العنوان بهدف الإثارة، فلنذهبْ فوراً إلى القصيدة التي استقينا منها هذا العنوان، وهي قصيدة (طرائق لنيل اللّقب) من ديوانه (تشكيلات لمولد الحصار). حيث يقترح سامر عدداً من الطرق من أجل نيل اللّقب وهي الطريقة الظّاهريَّة، والطريقة السوريالية، والطريقة الأرسطية، وأخيراً الطريقة الشَّائعة.
والواضح لقارئ هذه القصيدة أنّ سامر يعمل على تقديم نصّ شعري منشغلٍ بهاجسٍ طريفٍ وغريبٍ، ولا يعني كونه غريباً أنه مستَهجَنٌ، بل غريب قياساً لما تنشغل به قصائد الجيل الجديد من شعراء سوريا. هذا الهاجس هو نيل اللّقب. واللّقب حالةٌ ملتبسة بين لقب الشاعر ولقب الكائن الحقيقيّ وبين هذا وذاك، الإنسان ذو الهويّة التي يُعرف بها ويعرّف –بتشديد الرّاء الثانية- ولأننا نتعامل مع نتاج شعريٍّ فلندمج هذه الألقاب في دلالة واحدة هي الشاعر غير غافلين عن انضواء معنى الإنسان ذي الهوية، والكائن الحقيقيّ، داخل مفردة الشاعر.
سامر رضوان شاعرٌ يكتشف أنه قادم من جيل جديد صارت هداياه عبارة عن سلسلة من قهر، ولكنه لا يملُّ وإن خان صوتُ المغني فليعلن موقفاً واضحاً أو فليمدح المرحلة
تأتي أهمية منطوق القصيدة من أنها تحاولُ تقديم ذات الشاعر المتسائل عن كينونته، من أين يبدأ؟ وماذا يسأل وبماذا يهتمّ، وما القضايا الكبرى التي يجابهها، وماذا يقول في تراثه، في سياسته، في مستقبله... الخ. هل يرفض؟ هل يستمرّ في الدخول في النقاشات والضّرب بالبسملة؟
إنه شاعرٌ يكتشف أنه قادم من جيل جديد صارت هداياه عبارة عن سلسلة من قهر، ولكنه لا يملُّ وإن خان صوتُ المغني فليعلن موقفاً واضحاً أو فليمدح المرحلة. لذلك يختار سامر أن يكون شاهدَ جرح على المهزلة، ويختار أن يكون باذر النار، مشعل الرّفض، منحازاً إلى الفراشات. ثم يعلن بخطاب شعري جماعيٍّ يكمل سلسلة القهر أضحت هدايا لجيل جديد فيقول: صامدة أبجديَّتنا. إنني أقرأ في ضمير (نا) هنا مجموع الجيل الجديد الذي ينتمي إليه سامر.
ما تقدَّم يفضي بنا للحكم على أن همَّ وشغل القصيدة ومنذ طريقتها الأولى، هو همُّ جيل شعريّ يتفحَّص خطاه وموقع أقدامه، ويريد التّصدّي لأسئلة يتمنّى أن تكون أسئلته هو، ولحظته هو. ومثل هذه القضيّة من النادر ما ينشغل بها شاعر آخر من الجيل الجديد. وهذا لا يعني إلغاءها تماماً، فقد نرى صدى لها عند شاعر آخر مثل تمّام التّلاوي، ونواجهها عند سامر كبؤرةٍ مركزيّةٍ تنعكس أضواؤها على ما حولها من قصائد. إذ إننا سوف نصادف كثيراً من المواقف الشعرية في ديوان سامر، تصبّ كلّها في إطار محاولة إعادة صياغة سؤال الذّات وسؤال الماضي، وسؤال اللحظة الرّاهنة: من أنا؟ ماذا أكتبُ؟ ماذا أفعل بذاكرتي التاريخية بكل ما فيها من فقهاء وسياسات وعلوم وبلاغات؟ يقول:
لي سكرة لا يوقف السّدُّ العليُّ هبوبها
فتقمَّصتني قدرة اللاهوت
أعرف من أضاء ومن أساء
ومن تولَّى عرش تلك المسألة
وليَ انتصاراتُ الهزائم
بعد دقِّ الرّمح بالسّيف المثلّم
والمواثيقِ الكذوبةِ والرَّدى
وليَ الصّدى
هل أخرجُ الآن النهايةَ من تلافيف القصيدةِ
من رحى ألمي وجرحِ شهادتي؟
فليكتب التّاريخ: صفقتيَ انتهت
إن الشاعر يريدُ جاهداً ربط لغته الشعرية بمستوى معرفيٍّ يخصّ السؤال عن الذّات والتَّاريخ. وهو هاجسٌ مؤرّق في كتابات سامر. وكون هذا الهاجس متجلّياً منذ بدايات سامر، فهذا يعني أنه منهمكٌ بسؤال من هو منذ البداية، في لحظة وعي فنية فكريّةٍ نتمنّى أن تسود بين أصوات الجيل الجديد. ولكن من غير طغيان مادّة الفكرة على مادّة الشعر، وهذا اختبارٌ على سامر وسواه اجتيازه بمهارة فنية نادرة.
يريد سامر الخروج من رماد الأسلاف مثبتاً صوتَهُ الخاصّ. وهذا حقّ مشروعٌ. وقد امتدّت هذه الإرادة عبر مجمل قصائد المجموعة تشكيلات لمولد الحصار وسواها من قصائد. وذلك في موقفٍ فنّيّ معبَّرٍ عنه بالشعر. أي أن سامر لا يكتفي بكتابة القصيدة، بل يردفها بموقفٍ من داخلها يفيد بأنه يخاطب الآخر بصورة مختلفة، وعلى هذا الآخر أن ينتبه. إنه اعتدادٌ مبكِّرٌ بالذات، اعتداد مشروع أيضاً، وخاصة إذا جعلنا منه دلالةً ومؤشراً على الجيل الذي ينتمي إليه سامر، حيث يسعى هذا الجيل فعلاً إلى تقديم خطابه بصورة جديدة وتلفت النّظر. يقول سامر في مكان آخر:
أحبُّ إذا طار من أحرفي هدهدٌ
أن تعدّوا لبلقيس في دمكم مسمعاً
وأن يفقه الحكماء بداخلكم نفسهم
فحروفي تغنّي إلى قارئٍ
لم يكن صاحبي
بل يعيش بمحبرتي
ويكون لها فكرةً أو سؤالاً
يبشّر بالكشف والقفز فوق الحدود
وفوق المساء
في هذا المثال يسعى سامر إلى توضيح الوظيفة التي ينذر لها شعره. فهو يؤمن بقدرة الشعر على أن يكون الهدهد بل أن يخلق هذا الهدهد وهو رمزٌ للمعرفة والكشف والنبوءة واستقراء الغيب، وهذه كلها صفاتٌ لصيقةٌ بالشاعر الرؤيويّ الذي يريد له بعض نقّاد الحداثة أن يزول من حياتنا.
سامر يتابع في المثال السابق، توضيح وجهة نظره حول الشعر ومهمّته، فيتمنّى أن يحقّق الشعر الذي يكتبُه معرفة الإنسان لداخله، وأن يتحرّك الحكيم القابع فينا ليتواصل بحرارة مع هذا الشعر. فهو لا يكتب لقارئ مستقرٍّ، صاحبٍ، شبيه به، بل يكتب لقارئ يتغلغل في المحبرة ويخلق من مدادها فكرةً ما، شكّاً ما، فيقفز هذا القارئ فوق الحواجز ويتجاوز الأزمنة الرّاكدة ليحقّق لحظة الاكتشاف المعطاة من قبل الشعر.
إنها مهمّة صعبةٌ، اختار سامر رضوان أن يورّط نفسه بها، وأن يصيب شعره بها كذلك. فهو في كل ما قرأته له، يحرص على أن يزجَّ بالقارئ في عملية الكتابة لاستدراجه للمشاركة في إنتاج القصيدة، لذلك هو يصعّب على القارئ عوالمه الشعرية، خاصة في الكثير من قصائد هذه المجموعة، فيُلقي على القارئ مجموعة من المقولات والمجابهات لتحريضه على الخروج من مسبقاته والدخول في رهانٍ مع معرفة شعريّةٍ يطرح سامر على نفسه أن يقدّمها.
هذا ولا نعني بتصعيب العوالم الشعرية، أن يحدث انقطاع بين النص والمتلقّي، بل بتعبير آخر، إن هذا التَّصعيب واضحٌ على القارئ، بكل ما فيه من غموض دلاليّ لا يستطيع الشاعر مهرباً منه مهما حاول. ولكن ليست قصائد سامر جميعها تحمل هذه العوالم الإشكالية، فثمة لغةٌ ذاتيّةٌ تبني جسورها مع الأنثى والكون المحيط بها والملتبس بها كذلك. وما يريد قوله عن الأنثى، يحاول أن يكون غير شائع، ألم ينذر نفسه للإجابة على سؤال التّميز؟ عليه أن يقدّم أمثلة إذاً.
لأنّيَ نايٌ بثغرِك
نايٌ ... كما أشتهي أن تكون السماء
لأعزف قنطرةً من صباكِ على باب بيتي
وأحمي صلاتي بها
إن أردت الدّعاء ...
يحاور سامر هنا لحظةً عاديّةً بلغةٍ فيها الكثير من الجدّة واللاّعاديّة. فهو يبني قنطرةً من صبا المرأة على باب صوته.
وهو لا يقول أبني، وإلاَّ هبطت الصورة كثيراً، بل يجعل عملية البناء تتمّ بالعزف على الناي، فبدلاً من فعل أبني يستخدم أعزف، في لحظة إشراق فنية مدهشة. ولنلاحظ كم من الصور المتلاحقة في هذا السطر وحده: (أعزف قنطرة) (قنطرة من صباكِ) (على باب صوتي). وهذه الصّور مبنيّةٌ في وحدةٍ لغويةٍ متماسكة بنيويّاً ودلالياً بحيث أن جميع المفردات تضافرت لتصنع موقفاً شعرياً محكماً. وهذه من بعض ملامح التّجربة في قصائد (تشكيلات لمولد الحصار) وسواها. أعني بذلك ملمح الوعي الفنّيّ للحظة الكتابة. حيث تطالعنا عند سامر صورٌ شعريّةٌ جديدة من تلقاء مخيّلته الذّاتيّة، دون وقوع في مطبّ الهلوسات والتّداعيات التي تنسفُ جسد القصيدة. وهذا ما يعطي صوره سمة التّواصل مع المتلقّي بروحٍ جماليَّةٍ تتحسَّسُ المتعة وراء تلك الصّور. وفي هذا الموقف نؤكّد على أن القصيدة الحديثة لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نستغني عن الصور الفنيّة، ولا يمكن لأي ناقد أن يقنعنا بجدوى طلاق القصيدة من الصّور. وهذا ما استدركه كثيرٌ من أسماء الجيل الجديد الذي لم تأخذه الدّعاوى بالاستغناء عن الصورة لتتحوَّل القصيدة إلى ثرثرة شفويّة وتفصيلية يوميّة.
إذاً، يبدو سامر، كواحدٍ من الأصوات المختلفة عن السّائد، منتبهاً لمسارِ قصيدته بداخلها وخارجها، بقوافيها وتقطيعاتها، بعدم الاستطراد المجّانيّ والعبثيّ. وكل ذلك دلالة على طاقةٍ شعريّةٍ فيها الكثير من الاحتمالات المفتوحة.
ولنختم بهذا المقطع لسامر رضوان:
والقصيدة شارع لا برد فيه
ولا أغاني تزعج الجيران
والجيران لا جيرانهم موتى
ولا أرواحهم تحيا
فكلّ قصائد الدنيا سكونٌ في سجونٍ
أو سجونٌ في سكونْ
خرفَ المغنّي فيّ وارتاح الجنونْ
مسكونة بالجنّ مأساتي
ولحني من يكون؟