"لحسن الحظ ليس لدي أولاد"، هكذا خاطبت اللاجئة السورية صاحب الأغنية الذي يسرد مأساتها في أبيات من النثر المعبر دون غناء وإن كانت ترافقه الموسيقا المناسبة. ويستعرض شريط "الأغنية" مجموعة مختارة من طالبي اللجوء المتكدسين في مراكز الإيواء في باريس. تُضيفُ من أسماها "يادنا"، "بأن ذلك كان أكثر شدة وأكثر إذلالاً" إن كانت بصحبة طفل.
ويتساءل الفنان بحرقة إن كان بإمكانها أن تتجاوز كل العقبات التي تجاوزتها إن لم تكن وحدها في هذه المغامرة. فهي، وكما يسرد، قد هربت من القنابل في بلدها سوريا حيث كانت تعيش حالة من الخوف الرهيب ولكنها غير قادرة على التمييز وتحديد مصدر هذا القصف ومن أي عدو يأتي. مضيفاً بأنه "بين قصف رئيسها، وقصف المتمردين، وقصف الغرب، وقصف الأكراد وقصف داعش" فقد اختلطت عليها الأمور. "يادنا" لم تعد تعرف من دمّر قريتها وحوّلها إلى رماد. إنها فقط تعرف بأن الإنسان هو كائن مجنون، وإنه هناك، في بلدها سوريا، قد تشكّل شيئاً فشيئاً مركز هذا الجنون.
وفي مشهد محكي، تقترب الفتاة السورية من نافذة سيارته طالبة المساعدة، فيردّها خائبة بإشارة من يده، وينطلق بسرعة بعد وقفة قصيرة "على الإشارة الحمراء"، وهي عنوان القصيدة. وهو ما زال يذكر نظرتها المتألمة والمؤلمة من وراء النافذة. ومن ثم، يسترسل في استرجاع مراحل هجرتها التي استمرت ثلاثة أشهر. فقد ركبت جميع أنواع الناقلات من بحرية إلى برية. وواجهت أمواج الطبيعة وأمواج سوء أخلاق البشر. وفقدت كثيراً أو أكثر ممن كانوا حولها ورافقوها في المسار. ومشت لأسابيع عدة ودفعت لعقبان التهريب لكي تختبئ في الشاحنات دون رؤية ضوء النهار.
جنّتها الآن هي في حيٍ باريسيٍ فقير تلتحف جسر المترو مع عشرات غيرها من جنسيات مختلفة، وتأمل بالحصول على وضع اللجوء لتغيير طريقة حياتها. وليلها يمتلئ بكوابيس الطرد والترحيل، أما نهارها فهو يمتلئ بالتسوّل من السيارات التي تتوقف أمام تلكم الإشارة الحمراء. إنها تحلم بأيامٍ كانت فيها طالبة في بلدها سوريا إن كان للعدل عيون وإن كان للسلام أن يسود. إنها تبتسم أحياناً عندما تجد القوة لتفكر بالابتسام. تحلم بلهجتها السورية ولكنها عندما تبكي فبالفرنسية.
جنّتها الآن هي في حيٍ باريسيٍ فقير تلتحف جسر المترو مع عشرات غيرها من جنسيات مختلفة، وتأمل بالحصول على وضع اللجوء
تنتهي الأغنية ـ القصيدة بأن يذكر الراوي "بأن أشد المآسي تدور أمام أعيننا ولكننا دائماً مستعجلون، يجب أن نتحرك، هناك بشر خلف هذه النظرات، لقد قابلت يادنا على الإشارة الحمراء".
نص جميل مليء بالإنسانية والدعوة إلى التضامن مع مأساة ليست فردانيتها إلا وسيلة للعرض وللمشاركة. وهذا النوع من المساهمات الفنية الإنسانية ليس غريباً عن عدد كبير من الفنانين الأوروبيين الذين يغنون بالتزام غير ثوري، ولكنه أخلاقي وإنساني. وهم يستعرضون دائماً أهم ما يطرأ من أهوال ومصائب بحق المجموعات البشرية البريئة وما يتعرضون له من اعتداءات وانتهاكات من قبل أصحاب السلطة والمال. بالمقابل، فصاحبنا يجعل اللاجئة السورية ـ وإن كانت شخصية حقيقة أو متخيلة، وهذا ليس بالمهم ـ لا تعرف من أين أتاها الاعتداء في بلدها، وبالتالي، فهي غير قادرة على التمييز بين مختلف أطراف الصراع وتحديد مدى مسؤوليتهم عن الدمار والموت الذي حلّ بوطنها. وبالتأكيد، سيتردد المتابع المنصف في قبول هذه الملاحظة التي ربما تقاسمها البعض عن صدق أو عن سذاجة أو عن سوء نية. فالقصف يعرف القاصي والداني مصدره الأساسي، ولكن يجب أن يعترف القاصي والداني أيضاً بأن القتل قد سببه أكثر من طرف وعلى الرغم من استمراره فهو منوط حصراً بالطرف الرئيسي والمُسبّب.
وبعيداً عن الخوض في نقاش بيزنطي لن يُفضي إلى نتيجة حاسمة على هوامش المقتلة السورية، فالتحسيس بالمأساة الإنسانية محمود عموماً ولا يمكن أن تنتقص منه عدم ملائمته الكاملة ومطابقته الدقيقة للسردية "القتالية" التي يتبناها البعض. وعندما يستقر الوعي الجمعي على هذه البديهية أو الضرورة، فلا بد من أن قضيتنا ستكسب ما خسرته حتى الآن ـ أو ما لم تربحه على الأقل ـ من تعاطف منقوص غرباً على المستوى المجتمعي. ربما يقول بعضنا بأن هذا الخطاب الذي يتبناه الفنان هلامي الطابع ويبتعد عن تسمية الأمور بمسمياتها وتحديد المعتدي. فليكن، هو ليس بمناضل في الثورة السورية وليس مطلوباً منه أن يتبنّى موقفاً لم يستطع مجتمعنا المدني الناشئ ولا إعلامنا البديل المتخبط في أن يرسّخه أو حتى أن يبني له أسساً صحيحة لدى الآخر إلا لماماً وبشق الأنفس.