وسط تغيرات جذرية تعصف ببنية الشرق الأوسط، حيث أنظمة تنهار وأخرى تحل محلها، تبدلات اقتصادية واجتماعية جديدة، وتأثيراتها على مجمل القضايا الأخرى ومن بينها القضية الكردية في سوريا. ومع اشتداد الانسداد الحاصل في الملف السوري، رغم التحركات العربية البينية، أو باتجاه السلطة في دمشق، إلا إنها جميعاً تبقى دون فاعلية سياسية، أو حركية في ملف العلاقات وإعادة التطبيع، بما فيها مؤخراً تحرك أنقرة تجاه دمشق، والتي اشترطت الأخيرة انسحاب الأولى من كامل الأراضي السورية التي تتواجد فيها، كشرط سابق لأيّ حوار أو لقاء على مستوى الرئاسات، والتي تُعتبر حبل مشنقة لتركيا في حال تنفيذها؛ خاصة وأنها مقبلة على الانتخابات. كما نجحت واشنطن والوجود الإيراني في سوريا، في تمييع قضية التطبيع. وبالعموم تركيا نفسها غير مستعدة لخسارة رساميل اقتصادية سورية تعود بالمنفعة الاقتصادية عليها، أو خسارة المعارضة السورية في مسار جنيف، أو تمثيلها كضامن عنهم في مسار أستانا. مع كل ذلك الركود أحياناً والحركية البطيئة والفاقدة للفاعلية المؤثرة أحياناً أخرى، لا يزال مستقبل كرد سوريا على المِحك، فلا هم نجحوا في تفكيك أسباب التوتر مع تركيا، ولا أمنوا مخرجاً من الانسداد السياسي الداخلي لهم.
ترضية عربية ودولية لأنقرة والإدارة الذاتية ضائعة
فشلت أو لم تتعامل إدارات أوباما وترامب وبايدن بحزم أو بحدّية مع تركيا، ليس عجزاً ولا خوفاً، بل لعدم رغبتها في خسارة أنقرة إلى جانبها خاصة في محاور الاتحاد الأوروبي واليونان، الخليج العربي وباقي دول الجوار العربي لتركيا، والاستفادة من الموقع الجغرافي التركي المتمتع بأهمية دقيقة، وما تشكله أنقرة من رأس الحربة للسياسات الأمنية الدفاعية لواشنطن تجاه حضورها في البحر الأسود، والشرق الأوسط، والقوقاز، وروسيا خاصة مجالها الحيوي في الدول الخمس كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان، طاجيكستان.
في مقابل عدم تحول قسد والإدارة الذاتية إلى الجهة المفضلة أميركياً على حساب النسق التاريخي للعلاقة بين أنقرة وواشنطن. ورغم تأكيدات الإدارة الأميركية عدم التفريط بقسد، لكنها لم تُعلن ابداً عن أيّ نية في الدعم السياسي لها أو للإدارة الذاتية، ولا للمجلس الكردي أيضاً. وفي كل مرة تصل الإدارة الذاتية إلى أبواب دمشق تجدها موصده بإحكام أمام مطالبها التي تُوصف بالتعجيزية على حد وصف إعلام الطرفين، ولتعود تلك الإدارة حائرة بين الإعلان الأميركي رفض أي تطبيع مع السلطة في دمشق، مقابل تقديرها للمخاوف التركيا. ولم يعد الوقت متاحاً للمزيد من المناورات ولا التجارب، فلا يستقيم الوضع بعلاقات الإدارة الذاتية-مسد مع دمشق وواشنطن وموسكو في لحظة واحدة. ويبدو أن سياسة "تصفير المشاكل" بين تركيا والدول العربية تعود بالمنافع الاقتصادية الوفيرة على تركيا، حيث أشارت التقارير الاقتصادية لاستيراد الدول العربية ما قيمته 1,5 مليار دولار عام 2022، كما "كشفت بيانات مجلس المصدرين الأتراك، نمو الصادرات التركية إلى المنطقة العربية بنسبة 17.8% خلال عام 2022، لتبلغ قيمتها نحو 34.2 مليار دولار خلال العام الفائت". وهو ما يعني انحيازاً وتفضيلاً عربياً لتركيا على أيّ طرفٍ أخر. من الناحية الجغرافية، رسم القدر للكرد في سوريا أن يعيشوا في المناطق المحاذية لجنوبي تركيا، وهو ما فرض عليهم دون رغبة ولا استشارتهم، ولا الطرف الآخر أيضاً، أن يقع عليهم عبء البحث عن مشتركات وتقاطعات للعيش دون حروب، خاصة في ظل صعوبة التوازن العسكري.
ورغم أن واشنطن لا ترغب بالتفريط بكِلا الطرفين، تركيا وقسد، لكن في ميزان المصالح فإنه لا مساوي لثقل تركيا لدى أميركا. وهو ما صنع مشكلة مركبة للعقل السياسي الكردي، فقسم ليس بالقليل لم يفهم بعد أنهم "يطبخون الحصى ويَعْجِنون الماء بأحلامهم" حول تفضيلهم على تركيا، أوروبياً أو أميركياً. وما خسره الكرد لمناطقهم التقليدية في سوريا، لن يستطيعوا استعادته إلا بالسياسة والتواصل ولا غير. كل ذلك بات واضحاً من سياق البيان المشترك بشأن الآلية الاستراتيجية الأميركية -التركية الصادر عقب اجتماع وزير خارجية أميركا "أنتوني بلينكن" ونظيره التركي "مولود جاويش أوغلو" بتاريخ 18/1/2023. ويكفي القول إنه في كل مرة يقول "أحد الأميركيين" إنهم سيسحبون قواتهم العسكرية من الشمال السوري، حتى يبدأ جموع المواطنين الكرد والعرب والسريان بحزم حقائبهم أو البحث عن ملاذٍ آمن، لتتكرر معها أسطوانة "الغدر الأميركي". وأعتقد أن الكل يدرك أن أي عملية عسكرية تركية سيعني من بين ما يعنيه اقتلاع الكرد من جذورهم في سوريا، ولطالما تردد الألسن الكردية الإعلامية والسياسية، أن لتركيا مطامع في المناطق الكردية في سوريا، لماذا لا يبحثون عن مخارج سياسية لها؟
وأمام كل هذه التحولات والمساعي الدولية والعربية صوب تمتين العلاقات مع تركيا، تتعالى نبرة التصريحات الصادرة من شمال شرقي سوريا حول الانهيار الاقتصادي لتركيا وأنها على شفير الهاوية، والهزيمة المحتمة للرئيس التركي وحزبه في الانتخابات المقبلة، وربما تكون محاولة إقناع الذات بتلك التصريحات، عوضاً عن البحث عن مخارج تقيهم من أيّ عملية عسكرية محتملة. ورُبما يكون لتشتت المطلب الكردي ما بين القومي والأممي، دور هام في إضعاف الورقة الكردية، وتالياً التبخيس من قيمة وقوة المنصة الكردية في سوريا.
ضياع البوصلة القومية
المشكلة التي يعانيها كرد سوريا، بعيداً عن المواجهة المباشرة مع تركيا، الحكومة السورية، المعارضة السورية، هي داخلية مستفحلة، خاصة مع الأحزاب التاريخية التقليدية الموجودة، والتي فقدت الكتلة الصلبة من شخصيتها وهُويّتها، وهو ما يعني فقدانها لعنصري الوزن/الثقل السياسي، والبُعد القومي الوازن. وتالياً فإن عقد المؤتمرات الحزبية دون التأكيد على هاتين النقطتين تحديداً-الهُويّة والشخصية- هو تكرار تحجيم الحزب، وإقصاء الكفاءات وأصحاب الفكر والعلم، من مسار التثقيف الحزبي والشعبي وتأثيره السلبي العميق، خاصة وأن المنطقة تتطلب البحث عن هُويّة جامعة تلم شتات الهُويّات المتنافرة، ولطالما يطالب الكُرد بحقهم في تلك الهُويّة الجامعة عليهم أيضاً تقديم رؤى سياسية فلسفية لتلك الهُويّة، وليس الاكتفاء برفض كل مقترح هويّاتي. والبقاء وفق السياسات الراهنة مع العجز في إحداث أي اختراق أو تغيرات، يعني تكرار الخطأ نفسه لعشرات المرات وتوقع نتائج جديدة. خاصة وأن تلك الأحزاب إن لم تكن قوية، فإن آلية وشكل ونوعية المطلب تبقى ضعيفة. وعلى الرغم من كل الضربات التي نالت من الفكر القومي الكردي، لكنه لم ينهزم نهائياً بعد؛ فالقضية الكردية هي قضية قومية بامتياز، والأفضل البحث عن مشتركات وتقريب الفاعلين الرئيسيين في المنطقة.
ويُمكن استغلال النفوذ الحالي للإدارة الذاتية في مناطق تغلغلها مع علاقات المجلس الكردي، بعد الاتفاق على الطرح القومي - الوطني للكرد في سوريا، وفق صيغة تتناسب والعيش المشترك لمستقبل سوريا الجديدة. وإعادة ضخ الدماء في الفكر القومي مُجدداً، عوضاً عن المزيد من انحسار المد البشري الذي طالما تغنت به الحركة السياسة الكردية كأهم رافد وعصب حيوي في حراكها السياسي، بعيداً عن النظريات الجديدة التي لا تنتمي إلى عائلة المصطلحات والقضايا والنظريات الدولية التقليدية المتعارف عليها، والتي لا يملك الكرد ولا كل شعوب الشرق حق تغييرها أو تبديلها. أما علاقة الفكر القومي بالحصول على بطاقة الاستقرار السياسي، فإنها قائمة على تنشيط وتفضيل الخيار الشعبي والسياسي التقليدي التاريخي للكُرد، والذي يوفر سيولة وحمولة جماهيرية ومساواة مع غيرنا من الشعوب والأقوام السورية، ومع التأكيد أن تقوية القامشلي ذات الرمز والثقل السياسي الكردي السوري، يصب في مصلحة الأحزاب الكردية نفسها، كحل سياسي هويّاتي تاريخي لكسب معركة الوجود الكردي، ويمنح حلفاء الكرد راحة كبيرة في التعامل والدعم، ومع تعدد وتنوع التجارب التي خاضها الكرد أو غيرهم مع دول الجوار، رُبما تكون الاستفادة من تجربة إقليم كردستان العراق في تعاملها مع بغداد وتركيا، دون أن تتخلى عن هُويّتها القومية خير مثالٍ يُحتذى به.
إعادة تجربة البارزاني هل تكون الحل؟
بناء المواقف السياسية الكردية في منطقة تعج بالتغيرات الدائمة، دون سؤال ما العمل أمام تفضيل دولي وإقليمي وعربي لتركيا على حسابهم هو طريق للانتحار. والاقتصار على وصف تركيا بأبشع الصفات أو الألفاظ، ليس سوى خطاب شعبوي لن ينفع أبداً. وانطلاقاً من قاعدة لا فكاك للشعوب التواقة للحرية والعيش من الاستفادة من دروس التاريخ وعبره، أرغب بالقول: هل تتحول كامل المنظومة السياسية الكردية في سوريا إلى مثل البارزاني؟ هذا التشبيه يجب أن ينطلق من تصورات إيجابية من جانب تركيا أيضاً، وإمكانية تكرار العلاقات الناجحة والمميزة على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية بين أنقرة وأربيل. فمن مصلحة كرد سوريا إيجاد صيغة جديدة للاستقرار، عبر ضمانات دولية واقليمية، وخاصة مركز الثقل والقرار الكردستاني أربيل/هولير والرئيس مسعود البارزاني، وفق ثنائيتي أن الصعود الكردي لن يلعب دوراً في الداخل التركي، وأن تركيا ستجد من مصلحتها أيضاً التقارب مع "التوليفة" الجديدة في المنطقة، والتي من مصلحة تركيا أن تكون على تماس مباشر عوضاً عن التلاعب الروسي أو الإيراني على حدودها الجنوبية، دون نسيان أن ثروات المنطقة الكردية والرقة ودير الزور هي ملك لكل السوريين، وفقاً لتوافقات وحسابات واضحة. لكن ما يمنع البارزاني من إعادة تفعيل الورقة الكردية، هو صراع المقاربات بين الأطراف الكردية، والرفض المطلق للبحث عن مشتركات تقي وتحمي الهوية والفكر والقضية القومية من الشطط والانهيار. وكما أن على تركيا والإدارة الذاتية البحث عن مشتركات وحلول، مع المجلس الكردي، فإن على الإدارة الذاتية نفسها وحزبها الحاكم إيجاد تسويات ومقاربات سياسية جديدة في تعاطيها مع الأحزاب والنخب الثقافية الغير منسجمة أو المعارضة لسياساتها، عوضاً عن الاستمرار في المقاربة الأمنية. كما على المجلس نفسه الخروج من رتابة "العمل السلحفاتي".
وإذا رغب كرد سوريا ألا يطبخوا الحصة ولا يَعْجِنوا الماء بأحلامهم، فرُبما عليهم الاقتناع أن الحفاظ على الإدارة الذاتية لن تتم لا بالمزيد من السيطرة، ولا بإعلان الدفاع عن النفس واستجرار البكاء والعواطف الشعبية أو الدولية، إنما بالمزيد من المقاربة القومية للمطلب الهويّاتي الكردي في سوريا، والحفاظ على الحلفاء السوريين والإقليميين.
فلا الحرب ستجلب للكرد سوى المزيد من الدمار والدماء، ولا البحث في قضايا إقناع القواعد الاجتماعية بسوء النوايا التركية ستؤمن الحماية. وحدها الروح القومية والهويّاتية، ومقاربات الشراكة والمدّ الوطني مع السوريين وفق الحقوق القومية للكرد في سوريا، والقومي مع إقليم كردستان، سيكون الملاذ الآمن.