لم يكن عيسى أستاذ المرحلة الابتدائية النموذج الوحيد لأولئك الذين كظموا سخطهم فاستحالوا مرضى نفسيين يجوبون الشوارع تارة، ويلقون خطبهم على العابرين تارة أخرى، مستذكراً ما بقي في ذاكرته من كتب الفلسفة التي درسها في جامعة دمشق قبل أن يفلت العقل منه، وبالرغم من كل هذا العته الواضح إلا أن لحظات الهدوء كانت تمر على حياة الرجل فيستذكر مآسيه في التعبير عن حبه للحياة ورغبته في النجاة في العبودية على حد تعبيره.
قبل أن تحين لحظة الخراب السوري كانت الخيارات أمام عقلاء سوريا هي النجاة بطريقين لا ثالث لهما، إما الهروب بعقولهم أو الجنون والبقاء، والسبب في ذلك لقناعة عمومية سورية أن مجرد الكلام غير المباح يقود إلى السجن في أفضل الأحوال، والسجن يقود إلى النسيان والنهاية، وترسخت خلال عقود حكم البعث سياسة الصمت والنفاق و(الفهلوة)، وشعارات أنا ومن بعدي الطوفان وهو ما حصل فيما بعد إذ حل الطوفان الكبير، وهرب من هرب ناجياً كما يظن بعقله وحياته فيما من بقي راضياً أم مجبراً فوقع بين طرفي الحياة في البلد إما مجنوناً أو جائعاً، وأما محاولات الهروب فهي لأولئك الذين ما زالوا يمسكون بآخر الأنفاس.
تكاثر في السنوات الأخيرة مجانين البلد، ولا إحصائيات حقيقية عن أعدادهم سوى ما يصدر عن الجهات المختصة التي تقدر أعدادهم بالآلاف
ما قادني إلى هذا التداعي أمران أولهما تلك الحكايات التي يرويها بشر مثلنا عن ظلمة الزنازين ووحشتها، والخارجون من هناك تتوالى حكاياتهم عن كم العسف والظلم، ومنهم من يخرج وقد ترك خلفه عقله وأحلامه وقدرته على الحياة، وآخرون يتلاشون خلف مآسيهم يريدون أن ينسوا حقبة الأمل التي اعتقدوا للحظة أنهم يسيرون بها باتجاه الخلاص النهائي.
تكاثر في السنوات الأخيرة مجانين البلد، ولا إحصائيات حقيقية عن أعدادهم سوى ما يصدر عن الجهات المختصة التي تقدر أعدادهم بالآلاف، ومعهم تتزايد حالات الانتحار والفصام، وإن أضفنا عوامل أخرى اقتصادية تفاقمت في حياة السوريين كالفقر والعجز وانعدام الموارد ستصبح سوريا بأكملها مشفى للمجانين والفارين من الحياة إلى الخلاص بطرق مختلفة أهونها الجنون.
الخبر الثاني منسوب لنقيب الأطباء غسان فندي الذي تحدث عن (محاولات لإفراغ البلاد من عقولها بمن فيهم الأطباء عبر فتح وتسهيل الطرق أمامهم للهجرة، وأن هذه المحاولات تتم بشكل مدروس)، وكعادة النظام يلقي بأسباب نزيف الكوادر الطبية على ما سماه الحرب الظالمة على سوريا دون أن ينتبه إلى أن حمى هروب الكفاءات ازدادت بعد إعلان نظامه الانتصار في حربه على الإرهاب، وأن عقولاً أخرى اختارت الهروب خارج البلد المعتم من صناعيين ومهندسين وأصحاب المهن الصغيرة وحتى صغار الكسبة الذين كانوا في صميم خطاب البعث عن اليد العاملة العليا التي لا يعلو عليها أحد.
استطاع النظام خلال خمسين عاماً من سطوة المخابرات أن يصنع معجزته الخاصة في تحويل السوريين إلى باحثين عن النجاة من الإعاقة والموت
البقية ممن قلنا أنهم اعتقدوا بنجاتهم فلديهم جنونهم الخاص، جنون الحنين المختلط بالخوف من عتبات البلاد المحكومة بالعسكر والميليشيات والغرباء، وجنون الحياة الجديدة ومصائر الأبناء في بلاد اللجوء والغربة، وجنون سكان مخيمات البرد والطرد على بعد رمية حجر من البيوت المهدمة، وصراعات مفاهيم الحرية التي توصل إلى القتل بين زوج بعقل شرقي وامرأة ترى في العالم الجديد متنفساً لسنوات الوطن القاسية.
استطاع النظام خلال خمسين عاماً من سطوة المخابرات أن يصنع معجزته الخاصة في تحويل السوريين إلى باحثين عن النجاة من الإعاقة والموت، وأن يمنحهم اليوم فرصة الهروب بعقولهم ليس لأنه يملك الخيار بل لأن حماته يريدون بلاداً بلا بشر ليعيدوا ترتيبها على هيئة حسينية سوداء تسعى لثأرها التاريخي، وتزجهم في معركة نفوذها في هذا الشرق المزدحم بالويلات.