إن مفهوم حملة التضليل الإعلامي الروسية التي تقوم على إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بما يناقشه الكرملين، مع السعي لتدمير الخصوم، قد أصبح شيئاً مألوفاً.
إذ عقب الغزو الروسي لأوكرانيا خلال العام الماضي، اتخذت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي جميعها إجراءات سريعة وحاسمة لمجابهة الدعاية الروسية، وذلك عبر حظر القنوات التلفزيونية التابعة للدولة، مثل روسيا اليوم وسبوتنيك، إلى جانب قيام يوتيوب بحظر قنوات تلك الجهات على منصته.
بيد أن التضليل الإعلامي الروسي مايزال يستأثر بالاهتمام في العالم العربي، ونتيجة لذلك، أبلت روسيا بلاء أفضل على تلك الجبهة في منطقة الشرق الأوسط.
وحتى تتأكد من ذلك، كل ما عليك فعله هو أن تعبث بعش دبابير الدعاية الروسية، لتشاهد كيف ستظهر سرديات مألوفة لتعمل على تشويه أفكار العامة طوال الوقت.
قنوات عربية تجند نفسها لروسيا
إن التجول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مثل تويتر، سيطلعك على تقارير عديدة نشرتها جهات ومنصات إخبارية لتستهدف الجمهور العربي الذي يربط أزمة القمح العالمية بدوافع خبيثة لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بدلاً من أن يلقي اللوم على الحظر الروسي لهذه المادة، ورفضها للتعاون فيما بعد بخصوص هذا الشأن.
خلال الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، أعلنت القنوات الإخبارية العربية التي تعمل لصالح روسيا وبكل ثقة أمام الملايين من متابعيها بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد هرب من كييف، كما بثت كلها تلك الكذبة التي دُحضت منذ أمد بعيد والتي تقول بإن أوكرانيا شيدت مختبرات سرية لتقوم بتطوير أسلحة بيولوجية، ولتنشر فيديو لزيلينسكي بتقنية التزييف العميق، يظهر فيه وهو يتوسل لجنوده حتى يضعوا أسلحتهم ويستسلموا.
تكمن القوة الفريدة لوسائل التواصل الاجتماعي في أن أخباراً من هذا القبيل تصبح على تلك المنصات قائمة بذاتها وقادرة على خلق زخم كبير تماماً كما تفعل الصخرة وهي تنحدر من أعلى الجبل. لذا فإن أي خبر يتم تقديمه عبر ما يكفي من الكلمات المفتاحية الدارجة، ويلهبه شيء من الغضب يمكن أن يبقى محط اهتمام الناس طوال أسابيع بل حتى أشهر، الأمر الذي لابد أن يكسبه درجة من الشرعية الصرف عبر الاستمرار والبقاء طوال كل تلك الفترة.
"الخوذ البيضاء" في مهب ريح الدعاية الروسية
وكمثال على ذلك نذكر منظمة الخوذ البيضاء السورية التي تعرضت لحملة تدريجية شعواء من التقارير التي تنشر أخباراً مغرضة تتهمها بشن هجمات بالأسلحة الكيماوية في سوريا، لتنتشر تلك الأخبار بعد ذلك عبر المنصات والقنوات الإعلامية الموالية للنظام، وليؤكدها الكرملين بنفسه، ولقد طال أمد هذه الأخبار بفضل من يعرفون باسم المتعاطفين الناعمين، وهم المستخدمون الذين ينشئون غرفاً على وسائل التواصل الاجتماعي تخلف أصداء كبيرة، وذلك عبر ذكرهم المستمر لمواضيع معينة، مما يتيح لتلك الأفكار التي ثار حولها خلاف وجدل لأن تنتشر عبر الاستخدام المتكرر.. إلى أن تصبح أمراً عادياً ومألوفاً.
صدى لافت لقناة روسيا اليوم في العالم العربي
ودليل العمل هذا الذي تنتهجه القنوات التي تدعمها وتمولها الدولة الروسية، صار واضحاً وضوح الشمس في سوريا، ومن بعدها أوكرانيا، ولنتأكد من ذلك ما علينا إلا أن نبحث عن الجهات التي تكمن خلف المزاعم الكاذبة التي تضخها وسائل التواصل الاجتماعي وتعمل على نشرها، وعندها لن نجد إلا سبوتنيك وروسيا اليوم بالعربي، وهذه الأخيرة لاقت رواجاً كبيراً في الشرق الأوسط كما سبق أن راجت في أوروبا، وذلك لكونها تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم على ثماني محطات فضائية، ولهذا أصبحت القناة الأولى من بين أكثر خمس قنوات إخبارية مشاهدة في المنطقة. ولم تقف نجاحاتها عند هذا الحد، وذلك لأن روسيا اليوم بالعربي أصبحت واحدة من أشهر المواقع الإخبارية في المنطقة أيضاً، حيث تفوقت في أدائها على قناة الجزيرة خلال فترة امتدت لبضعة أشهر، في الوقت الذي حصدت فيه قناتها على اليوتيوب المزيد من المشتركين المخلصين لتتجاوز أعدادهم ما حققته قنوات روسيا اليوم الرديفة. وبالعموم، حققت منصات التواصل الاجتماعي التابعة لروسيا اليوم 804 ملايين مشاهدة، وقد ارتفع هذا العدد كثيراً منذ شهر شباط 2022.
إن الحضور اللافت لقناة روسيا اليوم بالعربي عبر الشابكة يعني بأن الدعاية المؤيدة للكرملين يتم تلقيمها مباشرة للأجيال الأصغر سناً في العالم العربي، والأساليب التي تتبعها قناة روسيا اليوم لتحقيق ذلك لم تعد تخفى على أحد، إذ تنشر هذه القناة في أغلب الأحيان محتوى يعادل ضعفي أو ثلاثة أضعاف المحتوى الذي تنشره قناة الجزيرة أو بي بي سي، وقد تتجاوزهما في ذلك بأضعاف كثيرة في معظم الأحوال. ويبدو أن هدفها من ذلك هو إغراق الجمهور بسلسلة من المعلومات التي يتم نشرها بعد ذلك عبر تغريدات وإعادة نشرها لدرجة القرف، وذلك للتشويش على أي صوت معارض.
وتحت هذه الشبكات الكبرى التي تمولها روسيا تكمن شبكة إعلامية متنوعة أخرى تنتشر في أرجاء المنطقة، وتعمل عمل المتعاطفين الناعمين، بأدائهم الذي يشبه ما شاهدناه في الدول الغربية أيضاً. بعد ذلك تقوم هذه المصادر الإعلامية بتكرار ما يناقشه الكرملين من أفكار مثل الببغاء، مع إضفاء صبغة مناسبة على المواضيع الرئيسية ونشرها ضمن أوساط الجمهور المحلي، إلا أن ما تختص به هذه المصادر الإعلامية يتجاوز حدود نشر أخبار مغرضة عن الحرب في أوكرانيا، ليصل إلى قيامها بتصنيف ما تقوم به روسيا على أنه تحصين للمنطقة من المخططات الغربية، كما تعتبر روسيا بأنها الطرف المنتصر لا محالة في هذا النزاع.
وهذه المحاولات الساعية لتقديم تبرير مضلل للاعتداء الروسي على دولة أخرى تجد أرضاً خصبة في العالم العربي، حيث خاب أمل كثيرين بالسياسة الغربية الخارجية التي استهدفتهم على مدار العقود القليلة الماضية. كما أن دعم واشنطن لإسرائيل في احتلالها لفلسطين يفرغ اعتراض الغرب على الاحتلال الروسي لأوكرانيا من معناه، حتى في الوقت الذي يعرب فيه غالبية الغربيين عى تعاطفهم مع الفلسطينيين، خاصة بين أوساط الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.
ولكن بالرغم من كل ذلك، ما تزال الرواية الأكيدة المناقضة للدعاية الروسية منتشرة في عموم العواصم الغربية، ولهذا من الصعب على الإنسان الغربي أن يتخيل وجود من لم يسمع عنها في مناطق أخرى، ولذلك لابد من أن يتحول هذا النداء إلى نداء يقظة ندعو من خلاله الناس لفهم آلية الدعاية الروسية المنتشرة في مناطق أخرى.
المصدر: Politico