عدوى التمرّد الأوروبي على واشنطن في سوريا

2024.08.06 | 06:20 دمشق

بشار
+A
حجم الخط
-A

تحييد النظام السوري وفصله بشكل كامل عن الصراع الجاري في أحداث غزة وفلسطين، واقتراب المنطقة والإقليم من حرب موسعة صارت على الأبواب، بين محور المقاومة بقيادة إيران، وبين إسرائيل التي اصطف كل الغرب الأطلسي إلى جانبها، ووزع أساطيله على كل المعابر وخطوط الملاحة الدولية مستنفراً طائراته وصواريخه البالستية وأقماره الصناعية، كل ذلك جعل السؤال مشروعاً حيال الدم الذي سال في الشوارع السورية منذ عام 2011، بالقضاء على مطالب الشعب السوري وتصفية مناضليه ونفيهم، واتهام الثورة السورية بالعمالة للخارج، كونها تريد إسقاط النظام الصامد والمتصدي للتمدد الإسرائيلي، والذي "يقف بوجه" المشروع الأميركي في المنطقة. فهذه مهزلة وانكشاف لم يشهد له العالم مثيلاً في التحايل على لقمة عيش الشعوب، وحفظ كرامتها وصون حيواتها.

الجولان وضاحية بيروت

لم ينتظر الشعب السوري الحر انتقام إسرائيل لأطفال مجدل شمس باستهداف القيادي العسكري في حزب الله فؤاد شكر، وحتى الصحافة الإسرائيلية والوكالات الرسمية في تل أبيب لم تربط بين الحدثين، فليس من قناعة ثابتة لديهم في افتعال رابط بين الجولان والضاحية، باستثناء نتنياهو الذي احتفى بتحقيق نصر كبير ممتد من بيروت إلى طهران، مروراً بالضربات المستمرة داخل سوريا وعلى حدودها الشمالية والشرقية والجنوبية.

حرب 7 أكتوبر في غزة أوقدت حرباً أخرى في مجدل شمس، وصنعت تحولاً يمكن أن يؤدي إلى انفجار إقليمي كبير، فصار هناك سعي وسباق محموم بين أنقرة، التي تريد الاستفادة من السباق والتصعيد الإقليمي على خط إسرائيل وإيران، الذي تدعمه وتريده واشنطن كما بدا المشهد عند استقبال نتنياهو في الكونغرس، وبين أغلبية دول الاتحاد الأوروبي بعد تمرّده على قرارات الاتحاد الملزمة بشأن عدم الاقتراب من النظام السوري، حتى يتعهد بتنفيذ بنود القرار الأممي رقم 2254، وكسر عصا الطاعة الأميركية، ومواجهة تمسك واشنطن بفرض موقفها على الحلفاء والشركاء في التعامل مع ملف الأزمة السورية.

فالرؤية الأوروبية هي كما المنظار التركي، تدعو إلى تموضع جديد في التعامل مع الملف السوري، حيث واشنطن تريد وتصرّ على فرض سياستها السورية على العديد من العواصم الغربية وفي الإقليم

فإذا تباطأت المفاوضات بين دمشق وأنقرة في طريق المصالحة والتطبيع أكثر، ستسبق العديد من العواصم الأوروبية تركيا في إنجاز هذه الخطوة، وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها. ولذلك تواكب أنقرة وتحيط هذه التحولات الإقليمية، والممزوجة بنكهة الحرب الموسعة، وبتحييد دمشق عن مسار الصراع، وتقرر كما العديد من العواصم العربية والإقليمية، مراجعة سياستها في سوريا، كي لا تبقى تحت تأثير السياسة الأميركية، التي تأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل وفرص لعب ورقة إيران ضد دول المنطقة.

المنظار التركي

التحول في سياسة أغلبية بلدان الاتحاد الأوروبي تجاه النظام في سوريا لن يكون بالمجان، حيث تفيد معلومات دبلوماسية أوروبية، بأن هناك مقايضة ستتم فيما يتعلق باللجوء السوري، الذي تحول إلى عبء مالي كبير وسياسي اجتماعي على كل أوروبا، يقابله دعم جزئي لاقتصاد سوريا، ومحاولة الولوج إلى حل في المشهد السياسي، بفتح قنوات حوار من خلال روسيا، ليصار إلى التحرر الكامل من قبضة السياسة الأميركية المفروضة على أوروبا في سوريا، والتي شكلت حاجزاً مانعاً في طرح أي سيناريو مغاير، يفتح الطريق أمام مسار التسوية والحل في هذا البلد.

فالرؤية الأوروبية هي كما المنظار التركي، تدعو إلى تموضع جديد في التعامل مع الملف السوري، حيث واشنطن تريد وتصرّ على فرض سياستها السورية على العديد من العواصم الغربية وفي الإقليم، مستغلة التباعد والتوتر مما يحصل بين طهران وتل أبيب، وكذلك بما يخدم مصالح الأخيرة في الجولان ويسهّل معها إنجاز يتحقق للأكراد وقسد في شرقي الفرات، كما يعرقل مشروع استفادة سوريا من ثرواتها الطبيعية، خصوصاً في غاز شرقي المتوسط، ليبقيها بعيدة عن خط التنمية العراقي العابر للعديد من الدول، بينما يحرك الورقة الإيرانية، ويستخدمها كفزاعة إقليمية لدول المنطقة، من أجل إبقائها إلى جانبها في التعامل مع قضايا المنطقة.

إدارة التصعيد في المنطقة، كما وصفها مستشار البيت الأبيض جون كيربي، باتت أكثر تعقيداً مما كانت عليه من قبل، يُستشف ذلك بالزيارة التي أنهاها بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة، والتي رغم الاستقبال الحاشد له في الكونغرس لم تكن ميسرة، ولم يعطَ الضوء الأخضر الكلي له في المنطقة، وتأكد ذلك بلقائه المرشح الجمهوري الذي تراهن عليه تل أبيب دونالد ترامب، الساعي إلى تبريد أجواء الشرق الأوسط، وهو ما أسمعه لنتنياهو مباشرة. فالشكوك كثيرة في واشنطن في قدرة الإدارة الأميركية التي تعمل كــ"البطة العرجاء" على الحؤول من دون انفجار الجبهات، بل هي تواكب التصعيد بإرسال أساطيل عسكرية إلى المتوسط والبحر الأحمر وتعزيز القواعد العسكرية في المنطقة. وإذا كانت جهود منع توسع الحرب متوقفة منذ 7 أكتوبر على إسرائيل، فإنها باتت الآن مرتبطة بمراجعة إيران لحساباتها في سياسة وحدة الساحات، بحال كانت فعلاً لا تريد توسيع الحرب.

الجبروت الإيراني قد أصيب بمقتل وصعقة، بسبب نوعية الخرق الاستخباري الكبير في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، فليس بإمكانها بعد اليوم لوم دمشق على الاختراقات الأمنية في الجسم الاستخباري السوري، التي سمحت بتصيد واستهداف القيادات الإيرانية الرئيسة داخل سوريا. في المقابل، لا تجاهل للدور الروسي الفعال، وكذلك الجهود العراقية عبر إشراف مباشر من رئيس الوزراء العراقي. لكن الأعين موجهة حول إمكانية نجاح العرقلة الإيرانية الأميركية، التي يبدو أنها لن تتوقف، إلا إذا حصلت صدمة في الإقليم كصدمة مجدل شمس وتداعياتها الاغتيالية في قلب بيروت وطهران، وما يتبعها من ردود فعل نارية موسعة. فما تردده القيادات التركية في الحكم، من أن سباق السلم والحرب في المنطقة لن يتوقف هو صحيح، فإما السلام التام والناجز أو الحرب الإقليمية الواسعة. وأسباب التصعيد الذي تريده إسرائيل وواشنطن تتقدم على فرص التهدئة، من خلال تكريس الالتزام الأميركي في دعم أمن إسرائيل والدفاع عنها، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، مهما كانت المخاطر عليها.

فالأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية هي فرصة نتنياهو الوحيدة لينجز ما يرغب به. بعد أن استعرض عضلاته المنفوخة إلى أقصى حد، دخلت المنطقة برمتها في توتر خطير، وتصعيد مخيف، باتجاه توسيع الحرب نحو مدى يصعب تقديره. فمرشحة الديمقراطيين كامالا هاريس، أو دونالد ترامب، كلاهما يريد وقف حرب غزة بعد هذه الانتخابات، بينما بإمكان نتنياهو المماطلة في مفاوضات الهدنة وتأخيرها بالاعتماد على حاجة الحزبين إلى الصوت اليهودي في الانتخابات. وهذا حكماً له حسابات كبيرة وخطيرة لم تعد المنطقة قادرة على تحملها أو السير بها. العالم بدأ مسيرته في بناء ترتيب دولي وإقليمي من دون أميركا، التي تعيش وسط أزمات داخلية وحسابات انتخابية، تفرض عجزاً في إيصال رؤساء وإدارات قادرة على تحمل مسؤولياتها في أحلك الظروف وأخطر الصراعات.