مكبّل الأيدي وبعد ثلاث سنوات من صدور "إشعار إنتربول الأحمر" في حقه، وترقب عشرات الآلاف من الضحايا؛ وصل إلى تركيا يوم أمس، محمد أيدن مؤسس لعبة "بنك المزرعة" والمحتال التركي الشهير المطلوب للعدالة، بعد أن نجح في جمع مئات ملايين الليرات التركية قبل أن يلوذ بالفرار، والذي كان قد سلّم نفسه للقنصلية التركية في مدينة "ساو باولو" البرازيلية، صبيحة يوم الجمعة الفائت.
نقلت السلطات التركية، الشاب المحتال من مدينة ساو باولو البرازيلية عبر طائرة للخطوط الجوية التركية، ووصل إلى مطار إسطنبول في تمام الساعة 22:10 مساء بالتوقيت المحلي.
فمن هو الشاب "النصّاب" ذو الوجه الطفولي والخدود الممتلئة، المعروف بلقب "العجل" في الأوساط التركية، وكيف استطاع الاحتيال بمبلغ قُدّر بما يقارب نصف مليار ليرة تركية، على عشرات الآلاف من الضحايا بواسطة لعبة إلكترونية شبيهة بـ"المزرعة السعيدة"؟ ليكتب حكاية تفاصيلها أقرب إلى الخيال، حتى تبنّاها منتجو الدراما التركية عبر مسلسل قصير تناول قصة حياته.
من غسل الصحون إلى ركوب الـ"لامبورغيني"
ربما لم يجل في خاطر الشاب "محمد أيدن" نفسه المولود في مدينة بورصة التركية عام 1991، والمنحدر من عائلة فقيرة، أنه سيكون بطل عملية احتيال كبرى، يضمن من خلالها مكانة في الصدارة، ضمن قائمة أشهر وأنجح المحتالين على مستوى تركيا.
حين النظر في تفاصيل ماضيه، لا يتوصل الباحث إلى أي شيء مميز، إذ لم يكمل تعليمه، وأكبر تجارب عمله كانت غسل الصحون، أما وضع سجلاته الجنائية المتعلقة بـ"الاحتيال" و"السرقة" أو "حيازة المخدرات" فإنها لا تشير إلى شيء إلا إلى كونه صبياً له ميل للخروج عن القانون، ذا مستوى هاو، اللهم فضلا عن محاولاته الفاشلة لدخول عالم الفن من خلال أغاني "راب" أنتجها تحت اسم مستعار، قبل سنوات من تأسيسه "بنك المزرعة".
لكن وبفضل أموال عشرات الآلاف من الحالمين بالربح السريع، سيُكتب لـ"العجل" ركوبه سيارة "لامبورغيني" الفارهة، بعد بضع سنوات من عمله المتمثل بغسل الصحون في أحد مطاعم مدينة بورصة التركية!
تأسيس لعبة "بنك المزرعة"
في نهاية شهر تموز عام 2016، مستفيدا من صداقته لمبرمج هاوٍ، أطلق محمد أيدن مشروعه -الذي سيحقق شهرة وثروة كبيرة من خلاله- لعبة "بنك المزرعة"، موعزاً ببدء مغامرته الجريئة والتي ستسمر لما يقارب العام ونصف.
تتشابه لعبة "بنك المزرعة" مع لعبة "المزرعة السعيدة" الشهيرة لحد بعيد، فهدف اللاعب الرئيسي تنمية قطيعه من الدجاج والماعز والخراف والأبقار. يؤمّن اللاعب الأعلاف لحيوانات مزرعته التي اشتراها، وفي المقابل يستفيد من منتجاتها ليحقق النمو.
لكن الفرق الرئيسي أن عمليات الشراء ضمن لعبة "بنك المزرعة" تتم بمبالغ مالية حقيقة، تحوّل لبنوك شركة "بنك المزرعة"، ويستطيع اللاعب سحب المبالغ المالية التي استثمرها في اللعبة مع الأرباح في الوقت الذي يريده وبلا انتظار. وكان للميزة السابقة دور مهم في خلق حالة من الثقة والطمأنينة عند اللاعبين. أما الدافع للانضمام لهذه اللعبة، فكان بالطبع الأرباح الخيالية الموعودة، والتي تصل لـ3 أضعاف المبلغ الرئيسي خلال سنة فقط.
حققت اللعبة ومنذ أشهرها الأولى شهرة واسعة، إذ استطاع مَن شارك، كسب أرباح لا يعادلها أي استثمار آخر، لم يتساءل المتحمسون للربح السريع عن المنطق الكامن في اللعبة، والذي يضمن استدامة الأرباح. ولم يدركوا أن الأرباح التي تسلّمها بعضهم لم تتعد كونها أموال استثمار بعضهم الآخر، في آلية شبيهة بالـ"التسويق الهرمي".
بطل التنمية الزراعية في تركيا
بعد عشرة شهور من إطلاقه اللعبة برصيد من عشرات ملايين الليرات التركية وآلاف الأعضاء المساهمين، بدأ "أيدن" مرحلة جديدة ستطيل من عمر خطته الاحتيالية، وستأخذها إلى مستوى مناف للعقل.
مع إدراكه لانعدام الجدوى في النظام الربحي للعبته، قرّر "أيدن" أن يكسب لعبته الشرعية الزائفة بتأسيس عشرات المزارع ومراكز بيع لمنتجاتها في العديد من المدن التركية، وبدأ بالترويج لنفسه في المحيط الشعبي على أنه رائد الأعمال الشاب الذي سيحقق ثورة في القطاع الزراعي التركي. عبر إعلانات تلفزيونية في أشهر القنوات التركية، مستفيدا من وجوه المشاهير والمسؤولين المحليين، الذين حضروا افتتاحه للمزارع وألقوا المديح لـ"رجل الأعمال الشاب"، استطاع "أيدن" تحقيق مبتغاه، حتى شُبّه بالسلطان الشاب محمد الفاتح!
بوجود مزارع حقيقية تابعة للعبة ومراكز بيع لمنتجاتها، ومع حالة الثقة الناتجة عن عشرات الدعايات وحملات الترويج بحضور المشاهير والمسؤولين المحليين، ومع الحفاظ على نسب الأرباح العالية، تجاوز عدد المساهمين مالياً في اللعبة 130 ألف شخص، بمجموع بلغ الـ1.2 مليار ليرة تركية.
بسبب انشغال الدولة التركية بالهزات التي تبعت محاولة الانقلاب الشهيرة عام 2016، لم تدرك البيروقراطية المالية التركية حجم الاحتيال الحاصل إلا متأخرةً، وذلك أواخر عام 2017. فحين إعلان "هيئة أسواق رأس المال" التركية عن إشارات استفهام كبيرة بحق مشروع "بنك المزرعة"، سيكون "العجل" محمد أيدن قد نجح في إخراج 350-500 مليون ليرة تركية من التداول لحساباته، ليختفي بعدها في عتمة الليل تاركاً وراءه عشرات الآلاف من الضحايا، الذين أدركوا حينذاك أن المزارع التي افتتحها "أيدن" مهجورة، وأن المنتجات الموجودة في نقاط البيع تم شراؤها من مزارع أخرى مع وضع شعار "بنك المزرعة".
لماذا العودة إلى تركيا؟
خلال الأيام الماضية، أثار سبب تسليم "أيدن" نفسه بعد ثلاث سنوات من هروبه إشارة استفهام كبيرة، حيث يرى إسماعيل سايماز - الصحفي التركي الشهير والذي نشر كتاباً تناول حكاية "بنك المزرعة" الفريدة - أنه من الصعب معرفة الدافع وراء قرار رجوعه، خصوصاً أنه نجح في التخفي داخل البرازيل على مدار السنوات الماضية من دون ترك أي رأس خيط للقبض عليه.
إلا أنه وبحسب "سايماز"، فإن "أيدن" ربما خسر أمواله بطريقة ما، أو أنه يطمح بعقوبة مخففة لا تتجاوز بضع سنوات، مذكّراً بالعقوبات المتواضعة التي نالها "نصابون" سابقون.