البث المباشر
مينا آرت غاليري، هو مشروع فني بين الفضاء الإلكتروني وصالة المعارض، والذي يهتم بجمع الفنون المتميزة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمهتمين بالفنون من العالم أجمع. يقدم القائمون المشروع بالكلمات التالية: "مينا يعني الميناء وهو المكان الذي تتقاطع فيه الرحلات الحضارية بين مناطق مختلفة من العالم، وتتواصل فيه الثقافات الإنسانية، وهو مشروع تأسس من قبل فنانين/ات ومن أجل الفنانين/ات".
وبعد أن عرض القائمون على المشروع خلال الفترة الماضية الأعمال الفنية عبر شبكة الإنترنت، يحقق القائمون على المشروع اليوم معرضاً افتتاحياً في فضاء فني ثقافي في برلين سيخصص للمشروع الفني ولتقديم أعمال الفنانين والفنانات السوريين.
شارك في المعرض 9 فنانين/ات، تنوعت أعمالهم بين فن اللوحة، وفن التصميم الغرافيكي، وفن التصوير الضوئي. وتعددت الموضوعات المتناولة في الأعمال الفنية بما يعكس تنويعات الموضوعات في الإنتاج الفني السوري المعاصر، كما تعددت الأساليب الفنية والتشكيلية والعوالم الجمالية والقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية والفلسفية التي تناولتها الأعمال.
العجائبية والسريالية والذهانية في التعبير عن آثار الحرب واللجوء
تتميز أعمال الفنان (جعفر صفتلي) بالمستويات التي تربط بين الفكرة- الموضوعة المراد التعبير عنها، تجلياتها الفكرية والفلسفية، والأسلوب الفني الذي يجمع بين العناصر الفوق طبيعية، السريالية، وكذلك الفانتازية وبين العالم النفسي والذهني المركب والمتعدد المستويات. وتجمع أعماله بين العالم العجائبي والعالم الذهاني، بين السحر والعزلة، بين المركب جمالياً والمرعب شعورياً، في أعمال مثل: (عدم الإرتياح، Discombobulation)، (التعاسة، Desphoria)، (التوهان، Disorientation).
أما العمل الذي يشارك فيه في المعرض الحالي، فيحمل عنوان (ما وراء الهاوية، Beyond the Abyss) فإنه يحمل بالإضافة إلى ما سبق موضوعة آثار الحرب، وتجربة النزوح والهجرة، والبحث عن الخلاص، بحيث كثف فيها الفنان تجربة وآثار الحرب، وتجربة الانتقال إلى مكان آخر بحثاً عن استمرارية الحياة، فيوصف في تصميمه الفني الحالات المركبة والمتناقضة أحياناً التي يعيشها اللاجئ بين الموت والأحكام النمطية. على يمين الصورة نجد كف مفتوحة، في منتصفها عين، بينما يسيل الدم من أعلى الإصبع الخنصر، وعلى اليسار تتشابك مجموعة كبيرة من الأذرع والأكف لتشكل ما يشبه الشلال المتشكل من الأذرع البشرية، أو جذوع الأشجار التي توحي بها الأصابع المتطاولة. يأتي في النص التعريفي المرافق للعمل الفني: "إن معايشة الحرب أو أياً من آثارها تترك ندوباً كبيرة في الجوهر، لابد لمخالب الحرب أن تقتل أو تترك جراحاً. إن رحلة أولئك الهاربين من الحرب هي حالة من الشعور بعدم الأمان المستمر، وعدم اليقين المزمن. هل يمكنهم حقاً تجاوز ما عايشوه في الماضي؟ هل يمكن لهم/ن حقاً أن يحصلوا على تلك الحياة التي حلموا بها؟ أليست الصعوبات التي وضعتها الإنسانية في قوانين الحدود الدولية بمماثلة لتلك التي يعايشها الضحايا في الحرب؟ إنها رحلة معاناة بين فقدان الهوية، وضبابية معنى المكان، فقدان شعور الانتماء، والخوف من عجز التواصل مع الثقافة المستجدة على المهاجر، وبين ألم الصباحات في المنفى، وكذلك واجب المساعدة والنضال في الدفاع عن القضايا، باٌضافة إلى كل ذلك، الحاجة المستمرة إلى التعلم وتعميق الإنسانية التي نشكلها، كل ذلك مترافق مع احتكاك مستمر ويومي مع الأحكام المسبقة والرؤى النمطية".
كما يرافق العمل الفني نص أدبي: "ومكثنا على حافة الهاوية، شرقها إنكار وغربها استنكار. أفق هو الشمال وقد لجأت إلى ما وراء الأحلام، بل ربما أوهام. بات الأمر واحداً حيث جنوبها معقل للدمار. مرت سنوات وبات الظن بأن الزمن قد توقف منذ لحظة الرحيل، إلى أن أصبحت تلك الوجوه التي ألفناها، وحالها من حال الهوية، مبهمة. وفي العزلة ملاذ، خير من أصوات تردد قصائداً يزعم أن كلماتها كانت ملهمة، وبالحقيقة العياذ، كي لا يصبح أحدنا شيطاناً أخرس. على الرغم من أسمائنا التي باتت تنطق بشكل أشري، وصداها يردد السؤال ذاته مراراً وتكراراً: من أين هو طريق العبور؟".
الحكايات الطفولية والميلانكوليا الشعرية في استشراف كابوس البلاد
قصيدة "سورية" لرياض الصالح الحسين (1954-1983):
"يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك"
في تصميم رقمي آخر، تستلهم الفنانة (سارة خياط) عملها الفني بعنوان (آه سورية) من قصيدة الشاعر السوري رياض الصالح الحسين، وكأنها قصيدة نبوءة كتبها الشاعر منذ الثمانينيات من القرن الماضي، يستشرف فيها ما سيحل في بلاده مع بداية الألفية الجديدة، ففي قصيدته بعنوان (نتفق أولا نتفق) يكتب الشاعر عن رؤية الدماء تتدفق في غرفة نومه، على سريره، وعلى مكتبته، وغرفته كما تبدو في القصيدة ليست إلا بلاده بأسرها:
"نحن متفقان:
الحياة جميلة
و الناس رائعون
و الطريق لم تنته
و لكن انظر إلي قليلاً
فإنني أتألم
كوحش جريح في الفلاة
نحن متفقان إذًا
الربيع سيأتي طبعًا
و الشمس ايضًا
و القمح إذا أردت
و لكن قل لي:
لماذا يملأ الدم
غرفتي و سريري و مكتبتي؟
و لماذا أحلم دائمًا
بطفل متطاير الأشلاء
و دمية محطّمة
و رصاصة تـئـز؟"
من قصيدة (نتفق أو لا نتفق)، للشاعر الحسين.
في الصورة، تجلس الفتاة بحضورها الضخم فوق أبنية المدينة، تحيط برأسها هالة الشمس الحمراء، بينما تغمض عينيها كما لو أنها في الحلم أو في التأمل، وتحمل الفتاة بين يديها عنصراً أساسياً في بناء عوالم اللوحة، وهي سمكة أرجوانية كبيرة مزخرفة بكثافة تزيد في عناصرها الإيحاء الطفولي أو الحكائي الذي تبثه الصورة في المتلقي.
النساء بالقوى الخارقة وانتظار العائلات للمعتقل المغيب
مشاركة الفنانة (ديمة نشاوي)، عمل حبر على ورق، تحمل عنوان (ثلاثة أجيال تحت جسر الرئيس)، تستلهم الفنانة هذا العمل من رواية (3 أجيال تحت جسر الرئيس)، وهي من مجموعة مشروع الأرشيف الشفهي السوري: "هذا العمل عبارة عن توثيق لحادثة تجمع العائلات وانتظار الناس تحت جسر الرئيس في تاريخ 4 أيار 2022، وهم/ن يأملون أن يتم الإفراج عن أحباءهم/ن وأقاربهم/ن المعتقلون/ات في السجون السورية، بدأت الواقعة بناءً على إشاعات أخبرت أن عفواً رئاسياً سيصدر لإخراج المعتقلين/ات من السجون إلى مركز المدينة. لقد دفعتني حجم المعاناة إلى ابتكار شخصيات تخييلية وكأنهم/ن آلهة بقوى خارقة يحملون الجسر والأهالي والعائلات المشردة تحته، هذه الشخصيات المبتكرة تحمل الجسر، تحمل الأهالي، وكذلك تحمل ذاكرة الحدث. وفي الرسم، نجد الحضور النسوي المتضافر والقادر في تعاضده على حمل الجسر، حمل الناس، وبالأدق حمل الكارثة. نصف قطر الدائرة التي يصنعه حضور النسوة المتنوعة الأعمار، والانتماء الثقافي، والدور النضالي بين المرأة الريفية، المزارعة، المتقدمة في السن، وبين المرأة الحالمة الأيقونية، والمتماهية مع عناصر الطبيعة، نجد شمساً بنفسجية بدلاً من العين في وجهها، وكذلك تحضر فتاة في عمر مغاير لكل من سبقها، وطفل يلهو. هذه الشخصيات الأربعة تصنع في تواصلها إطاراً يحيط بكامل الرسمة بكامل المدينة، لتخبر الرسمة مضمونها بوضوح، قدرة التعاضد النسائي في وجه الكارثة.
الحضور والغياب بين الجسد الفوتوغرافي وشخصيات اللوحات الحالمة
سلسلة الأعمال الفوتوغرافية للفنانة (غيفارا نمر)، والتي تحمل عنوان (انعكاسات أو تأملات، Reflectios) هي جزء من مشروع فني ومعرض حمل عنوان (الوجود في مكان آخر) بالتعاون مع المصور الفوتوغرافي علاء الحسن، ويتضمن سلسلة من الصور بالأبيض والأسود، ينطلق من رغبة التعرف على علاقة اللاجئون/ات في أوروبا مع ماضيهم/ن، وبالتالي فإن المشروع يرتبط بالعلاقة بين الفرد والذاكرة، ويكشف عن التصورات المتناقضة للذات في رحلة الانتقال الجغرافي والثقافي. ويذكر النص التعريفي المرافق للمشروع: "يهدف المشروع الفني إلى مناقشة الصور النمطية حول مفاهيم الانتماء والحنين وتجربة الشتات". تتعامل الفنانة (غيفارا نمر) مع الصورة الضوئية بمستويات سردية ذاتية، فالصور التي تلتقطها تتعلق بحكايات أو تجارب عاشتها بنفسها حيث تموضع جسدها في المكان والزمان والصورة الملتقطة، وبمستويات تشكيلية تقترب من جمالية اللوحة، حيث العناصر المحققة للصورة تتموضع في هارموني شعري، بألوان الأبيض والأسود، وبتدرجات الظلال والحضور. في (انعكاس 6) التي تشارك فيها في هذا المعرض، يظهر ظل جسد المصورة في بركة من الماء تحيط به أغصان أشجار، سماء واسعة، وامتداد لتدرجات لونية تعطي الاحساس بصورة تعبر عن محاولة الحضور الإنساني، كما تعبر عن الغياب المفروض عليه، وعلى أي حال ترسم الصورة الفوتوغرافية توهان الانتماء إلى مكان جغرافي أو إلى منظر فني.
وهنا تتقاطع أعمال الفنانة، مع موضوعة تظهر بوضوح في اللوحة الزيتية التي يشارك بها الفنان (عبد الله العمري)، والتي تحمل عنوان (حالة الوجود الخالية من الشك) أو (حالة مطمئنة من الوجود). وفي هذه اللوحة الأكريليك، تتمدد مجموعة أجساد على أرضية باللون الأصفر، تغيب رؤوسهم/ن عن سطح اللوحة، بدون نظرة مبتادلة أو تفاعلية مع الناظر، ربما كان المستلقون في اللوحة ينظرون إلى السماء أو أية مكان آخر. إن غياب الأوجه والرؤوس يحمل العديد من الاحتمالات للمتلقي، ولكن بالأخص هي دعوة للمتلقي لكي يعمل خياله ورأيه في إمكانيات واحتمالات الحضور الإنساني في اللوحة التي لا يتواصل المتلقي إلى مع الجزء السفلي من أجسادهم/ن. وتخلق اللوحة بالتالي بين المتلقي وبين الشخصيات المتواجدة فيها لعبة متبادلة من التحديق والتخيل المتبادل. يكتب الفنان: "اللوحة تعكس جوهر الوجود الإنسان، سعينا أن نكون مرئيين، مفهومين، وفي حالة من التواصل مع الآخرين، واللحظة التي تلتقطها اللوحة تماثل تلك اللحظة التي نصل فيها إلى السكينة والعزلة، والتأملات الذاتية. تخلق اللوحة عالماً شعرياً يذكر بالطبيعة المعقدة للوجود الإنسان، للعلاقات النفسانية، ولمحاولة الخروج من الزمن بحثاً عن المعنى، أو بحثاً عن لحظة التواصل مع أنفسنا، أو مع العالم من حولنا".
ذلك جدلية الحضور والغياب، المرئي والمتختفي، تظهر في لوحة الفنان (عبد القادر شبلوط) والتي تحمل عنوان (رائحتها)، والتي تضعنا أمام ثنائية حسية بين المرئي والمحسوس، كأنها لوحة تحاول التقاط رائحة الغياب، تشكيل لكيان امرأة غائبة لكن أغراضها الحاضرة في اللوحة تعيد احتمالية حضورها. يكتب الفنان: "هذه التجربة الجمالية، حيث الذاكرة تدفع حتى حدودها الأخيرة، ليس لأنها فقط تسعى لالتقاط رائحة غائبة، بل أيضاً وجود امرأة غائبة، والتجسيد العالي الواقعية في اللوحة، هو دعوة لتخيل، لشم، للإحساس بإمرأة غابت عن الحضور البصري".
يشارك الفنان (طارق سعيد) بعمل من الحبر بعنوان (التحليق في فضاءي): "بورتريه ذاتي يبين بفخر الطفل الذي ما يزال في داخلي، يلهو بألعابه ويرتدي الشيفون، دون أن يخشى شيئاً. اللوحة اختبار لشخصيتي وذاتي، دراما، لعب أدوار، رغبات ونوستالجيا". أما في تقديم لوحته الإكريليك التي تحمل عنوان (على الطرف الآخر، أو في الجهة الأخرى) يكتب الفنان (ورد زراع): "كل ما يتمناه أياً منا، يقع على الجهة الأخرى أو على الضفة الأخرى للخوف". وكذلك تشارك الفنانة (نور بهجت المصري) بلوحة أكريليك بعنوان (احفظ ما تبقى): "تظهر في اللوحة امرأة وهي تلف سمكة بأوراق بيضاء، وتدخن، وهي محاطة بالعديد من الكائنات البحرية، مما يوحي بأنها داخل العالم المائي في بعض الأحيان. إن الشخصية المرسومة تحدق بدورها أيضاً بالمتلقي الناظر إلى اللوحة".
