قبل بضع سنوات فر آستون (هكذا يلقب نفسه) من بلده سوريا، حيث خاض غمار البحار الخطرة ليصل إلى أوروبا، لكنه اليوم أصبح ينقذ الناس الذين يخوضون الرحلة الخطرة ذاتها عبر البحر المتوسط وهو على متن سفينة Ocean Viking.
في عرض البحر بين ليبيا ومالطا وإيطاليا، ينتظر طاقم سفينة Ocean Viking في نقطة معينة بحثاً عن أي قارب مطاطي غير صالح للملاحة يلوح في الأفق وهو يحمل كثيرا من الناس الذين حشرهم المهربون على متنه، ليتوجهوا جميعاً نحو أوروبا.
وعندما تحين تلك اللحظة، ينطلق الجميعيغ للعمل، حيث يهرعون للوصول إلى ذلك القارب الصغير بأسرع وقت ممكن، حتى يقوموا بتوزيع ستر النجاة على الناس إن تسنى لهم ذلك، إلا أن الأهم بالنسبة لهم هو إنقاذ المهاجرين وحملهم على متن سفينة الإنقاذ التي يعملون عليها.
إن هذا العمل مضن جسدياً، إذ حتى في أيام الهدوء والصحو، لا بد أن تقوم أمواج البحر بإبعاد المراكب عن بعضها، وذلك جزء من أي عملية إنقاذ.
ثم إن لحظة الانتقال الحاسمة تحتاج إلى تواصل دائم، وضبط للحشود وتقييم للموقف، ناهيك عن الاستعداد المكثف والتدريب الشديد في مجال التعامل مع القوارب المطاطية في ظل ظروف طقس سيئة للغاية.
وهذا العمل يتطلب خبرة عالية في مجال الملاحة البحرية، ولهذا السبب يضم طاقم الإنقاذ بحارة مدرَّبين، إلى جانب مسعفين وغيرهم من العاملين في مجال الاستجابة الطارئة.
وبما أن آستون أحد العاملين في مجال الإنقاذ لذا فهو رجل سوري قوي البنية، في أواخر الثلاثينيات من العمر، وعندما لا يكون لديه عمل، يمضي وقته بدراسة اللغة الفرنسية، أو ممارسة الألعاب الرياضية على متن السفينة، مع الاستماع إلى الموسيقا من خلال سماعتي الأذنين اللتين تبدوان كبيرتين جداً على رأسه الحليق. ثم إنه رجل هادئ، إلا أن لديه كثيرا من القصص ليسردها إن بدأ بالحديث.
درس آستون هندسة الملاحة البحرية في مصر، وعمل بحاراً تجارياً لبضع سنين، وهكذا حصّل خبرة رفيعة تغطي سائر متطلبات عمله الجديد. ثم أدى الخدمة العسكرية في سوريا عندما كان ببداية العشرينيات من عمره، بيد أنه يحمل قيمة مختلفة داخله، لكونه يعرف ماذا تعني حالة الرحيل عن الوطن لبدء حياة جديدة في أوروبا، وقطع البحار الخطرة لتحقيق ذلك الهدف.
آستون يستريح بعد يوم عمل شاق- تاريخ الصورة 7 كانون الثاني 2023
الرحيل عن الوطن
ولد آستون بمدينة حماة وسط سوريا، لكنه يصف مدينته بأنها صغيرة حيث يقول ضاحكاً: "عندما تصف مدينة بأنها صغيرة في سوريا فأنت تتحدث عن مدينة تؤوي حوالي مليون نسمة".
قبل مولده بأربع سنوات، تحولت حماة إلى مسرح لانتفاضة ضد نظام حافظ الأسد، وانتقاماً لذلك، نفذ النظام مجزرة بحق آلاف المدنيين. وعندما رأى آستون مدينته حماة للمرة الأخيرة في عام 2012 بعد قيام انتفاضة أخرى ضد بشار الأسد أدت لقيام حرب في مختلف أرجاء البلاد، كانت حماة "غارقة في الفوضى، بما أن الجيش كان يطوق المدينة".
سافر آستون إلى مصر حيث شهد الانتفاضة التي قامت في تلك البلاد في عام 2013، وفي تلك الأثناء أخبرته أمه بأن الجيش السوري الذي حاصر مدينته أكثر من مرة، قد اقتحم بيته ليقوم بتجنيده، فأدرك أنه لم يعد بوسعه العودة إلى وطنه "إلا في حال رحيل الأسد" كما يقول لنا.
الإبحار
خرج آستون من سوريا على عجل، إلا أن رحلته إلى أوروبا استغرقت سنوات، حيث حصل في البداية على عقد مع شركة شحن سورية تقوم بنقل الخراف الحية من لبنان إلى دول الخليج، وعن ذلك يقول: "لحسن حظي كنت أعمل في غرفة المحرك، أي إني لم أكن أتعامل مع الحيوانات بشكل مباشر ، ولكن بوسعكم تخيل الرائحة التي كانت تعبق في المكان".
ثم انتهى به المطاف في لبنان كغيره من السوريين، حيث عمل في عدة وظائف في بيروت، وعن تلك التجربة يقول: "عملت في مخبز وفي مجال الإنشاءات وصيانة المباني.. عملت في كل شيء.. أي شيء بوسعي أن أعثر عليه".
وخلال تلك الفترة، أمضى آستون جل وقته في التحدث إلى غيره من السوريين في بيروت، حيث كانوا يناقشون أمور الحرب ومستقبلهم، بل حتى الأمور الخاصة التي يخفيها معظم الناس عن الغرباء، ولهذا يقول: "لدينا مشكلة مع الحدود نحن السوريين، فنحن نعرف الكثير عن بعضنا، تماماً كما يحدث عندما تجلس في مقهى بجانب شخص آخر، فتعرف الكثير عنه من خلال التحدث إليه، حيث تتحدث في الأمور العميقة مباشرة، ولهذا أرى بأن لدينا مشكلة حقيقية مع الحدود الشخصية".
كأس المتة التي يتناولها آستون في نوادر الأحيان
طوال تلك الفترة كان تفاؤل آستون حذراً تجاه النزاع في سوريا وإمكانية حله خلال فترة قريبة ما يعني قدرته على العودة إلى بيته ووطنه، حيث يقول: "كنت أحلم بنتيجة إيجابية بعد ثورة عظيمة، حيث كنا نقول سنبني مستقبلنا وسنقيم الديمقراطية والحرية وسنعلي من شأن القيم والمساواة وسنعطي الناس حقوقها وسنراعي حقوق الإنسان".
ولكن مع اشتداد الحرب زالت تلك الغشاوة عن عينيه، ففقد الأمل، وعن ذلك يقول: "شعرت بخيبة أمل وإحباط شديد، نظراً لعدم وجود حل".
وبذلك تخلى آستون عن فكرة العودة إلى سوريا، بعدما أحس بالأمان في بيروت، لكن مستقبله بقي غير مضمون هناك نظراً للظروف الاقتصادية السائدة في ذلك البلد، وبما أنه شخص واحد من بين ملايين اللاجئين السوريين في لبنان لذا أحس بأن الوقت قد توقف وبأنه بات عالقاً هناك.. إلى أن تمكن من وضع خطة.
إذ بعدما تحدث إلى أصدقاء له يقيمون في أوروبا، قرر التوجه إلى مدينة إزمير التركية والبحث عن شخص بوسعه أن يساعده في العبور إلى اليونان، وعن ذلك يقول: "بقيت أمشي في شوارع إزمير إلى أن رأيت ثلة من الناس يحملون حقائب سوداء تشير إلى استعدادهم للرحيل".
كانت تكلفة تأمين مكان له ضمن شاحنة صغيرة تقله مع مجموعة من الناس تعادل ألف دولار أميركي، وعن ذلك يقول: "جرى الأمر كله على عجل، خلال خمس دقائق، حيث عدت إلى الفندق وجمعت أغراضي ثم رحلت معهم".
وصل الجميع إلى ساحل البحر في تركيا في غضون ساعات قليلة عند الصباح الباكر، ويقدر آستون بأن عددهم وقتها كان 50 شخصاً، بينهم كثير من الأطفال. كان القارب المطاطي صغيراً إلا أنه بحالة جيدة، ولهذا لم يشعر آستون بالوجل، لأن رحلة العبور إلى اليونان قصيرة نسبياً، وهو معتاد على ركوب البحر. بيد أن وجود الأطفال على متن القارب دفعه إلى مراقبة الأمور بحذر شديد، حيث يقول عن ذلك: "إن بكاء طفل واحد يجعلك تحس بالمسؤولية لسبب ما، إذ على الرغم من أنه لا يمت لك بصلة، إلا أني شخص بالغ راشد على متن القارب، ولدي الكثير من المعارف في مجال البحرية".
آستون يمرر كيساً مملوءاً بستر النجاة لأحد زملائه عند استعداد السفينة للإبحار من ميناء مرسيليا – التاريخ 16 كانون الأول 2022
وصل القارب لجزيرة ساموس اليونانية دون أن تحدث أي مصيبة، وبعد أيام على ذلك وصل آستون إلى أثينا، ومن اليونان سافر إلى دول البلقان، ومنها إلى النمسا، ثم توجه شمالاً إلى أن حل بالنرويج، في رحلة استغرقت شهوراً عبر خلالها العشرات من الحدود، ومع كل حدود يعبرها كان آستون يحس بأن المستقبل بات ينفتح أمامه من جديد، ولهذا يقول: "عندما وصلت إلى أوسلو شعرت بأن الوقت أخذ يجري مرة أخرى".
كان من الصعب عليه التأقلم على الحياة في النرويج، بدءاً من لغتها مروراً ببيروقراطيتها، وصولاً إلى ثقافة بيئة العمل فيها، وقد لاحظ آستون بأن الشعب النرويجي المعروف بتكتمه مختلف تمام الاختلاف عن الشعب السوري الذي يعاني من مشكلة مع الحدود، وهذا ما تسبب بوقوعه بحالات محرجة في بعض الأحيان. ولكن على الرغم من كل ذلك، أحس بأن الجميع يتقبلونه، حتى عندما يرتكب خطأ، إذ لم يكن يشعر وقتها بأنه لا يجب أن يكون هناك، ولهذا بدت الأمور بالنسبة له كقصة حب حقيقية حسب تعبيره.
العودة إلى البحر
يعمل آستون اليوم على متن سفينة Ocean Viking التي ترفع علم النرويج، وهذا ما يجعله على تماس مباشر مع أشخاص كثر وهم في خضم رحلتهم المروعة على اختلاف تفاصيلها الدقيقة، بيد أن آستون يخبرنا بأنه يلاحظ شيئاً مشتركاً لدى جميع الأشخاص الذين يساعد على إنقاذهم، حيث يقول: "وصلت للمرحلة التي دفعتني لركوب قارب مطاطي، إلا أني لم أدفع بنفسي لتلك التجربة إلا عندما فقدت الأمل، أي إني لم أركب القارب المطاطي لأني كنت جائعاً أو لأني كنت أحلم بحياة مرفهة في أوروبا، بل لأني فقدت الأمل".
آستون يربط حول عنقه مفتاح محرك أول قارب أنقذه في البحر التاريخ: 8 كانون الثاني 2023
ولذلك يلاحظ آستون حالة فقدان الأمل وقد تجلت في الندوب الجسدية والرضوض العاطفية التي يحملها الأشخاص الذين يقوم بإنقاذهم ونقلهم إلى سفينة Ocean Viking، إذ عندما يتحدث إلينا من قمرته في السفينة يشير إلى المأوى حيث ثمة العشرات من الناس الذين يستعدون في تلك اللحظة لمواجهة العواصف والأحوال الجوية السيئة، ويعلق آستون على ذلك بقوله: "بوسعك أن ترى العلامات على أجساد الناجين، لأن تلك العلامات تخبرك قصتهم، وتحكي لك كيف فقدوا الأمل ولهذا وصلوا إلى هنا، أي لهذا السبب ركبنا القارب المطاطي اللعين لنحاول عبور المتوسط... رأيت أحد الناجين وقد تعرض لإصابة بعيار ناري في ذراعه، فقط حتى يسلبوا منه هاتفه، وأحدهم فقد ذراعه بالكامل، وبعضهم أجبر على العمل بالمجان طوال أشهر حتى تتسنى له فرصة لركوب ذلك القارب".
يدرك آستون بأن المهمة التي يقوم بها ما هي إلا جزء من مهام أكبر ضمن لعبة محيرة كبيرة، معظم أجزائها المفقودة موجودة تحت قبة البرلمان الأوروبي. ولكن إلى أن يتم التوصل إلى حل يكف الناس من خلاله عن خوض تلك الرحلات، يرى آستون أن من واجبه البقاء في البحر لحماية أكبر عدد ممكن من الناس، ولذلك يرتدي حول عنقه على الدوام مفتاح محرك أول قارب أنقذ الناس منه، وعن ذلك يقول: "ينبغي على أحدهم الاضطلاع بهذه المهمة، وأنا لها".
المصدر: Info Migrants