هذا الكتاب قرأته منذ زمن طويل، علماً أنني لست شغوفاً بقراءة الكتب التي تؤرخ لمراحل سياسية، وخاصة حين تكون بأقلام السياسيين أنفسهم، لأنه من الطبيعي أن لا يذكروا سقطاتهم، وأخطاءهم؛ وخاصة الكتّاب العرب. وليس عبد السلام العجيلي بعيداً عنهم في كتابه هذا.
ما قادني إلى قراءة ذلك الكتاب، هو الطريقة التي احتال بها العجيلي على الأحداث، فهو قد دفع إلى النشر الجزء الثاني من كتابه (موضوع هذا المقال) قبل الجزء الأول، وأن الكتاب جاء على شكل سيرة ذاتية، وليس تأريخاً لأحداث سياسية وحسب؛ إنه صورة عن حياته في فترة عمله السياسي، فالجانب السياسي هو أحد جوانب حياة العجيلي، ومن المؤكد أنه محور تلك الحياة آنذاك وليس كلها. وكان القاص والروائي عبد السلام العجيلي موجوداً بكل صفحة من صفحات هذا الكتاب، إضافة لكل من وضعتهم ظروف البلاد أو العمل في دائرة اتصالاته واهتماماته، لست أدري إن كان قد أسقط منهم أحدا، أو لم يفعل، ولكنه قد احتاط لهذه الملاحظة وقال في متن الكتاب أنه اشتغل على توارد الذكريات. فجاء الكتاب؛ ككل كتب العجيلي؛ أنيقاً؛ محتشماً؛ مترفعاً عن ذكر مساوئ الآخرين.
المهم أنه فعلها، وكتب مذكراته على شكل ذكريات، للتخلص من سيطرة الوثائق على كتابه، وللتخلص مما لا يريد ذكره أيضاً. فالذكريات تأتي وتغيب، وقد غاب الكثير مما ورد في صفحات الأيام عن صفحات كتاب العجيلي (ذكريات أيام السياسة) الذي سيطرت عليه لغة العجيلي المترفعة أدباً والبعيدة عن القدح والذم حتى وإن توفرت موجباته.
هذا الكتاب الذي سبق ورواه العجيلي بين قصصه ومقالاته وأحاديثه بشكل انتقائي، على ما يبدو، آن الأوان أن يقول كلمته الأخيرة فيه، فقالها ملخصاً وجوده في السياسة السورية ابتداءً من عام 1962 قافزاً فوق مرحلة وجوده في مجلس النواب السوري 1947 -1948 -1949 مبرراً هذا التجاوز بقوله: "رأيتني مدفوعاً بتوارد الذكريات على خاطري، أبادر إلى تسجيل وقائع الفترة الثانية قبل الأولى، وحتى في تسجيلي وقائع الفترة الوزارية، وجدتني لا أتبع الترتيب الزمني، إذ بدأت بكتابة الذكريات من منتصف تلك الفترة لا من أولها".
ولا أعتقد أن القضية مرتبطة كما قال بتوارد الذكريات، وأظن أن ذلك تم على هذا الشكل لغاية في نفس يعقوب. فالعجيلي –بحسب معرفتي الشخصية به– لا يشتغل في الأدب بشكل عفوي، بل يمكنني القول إن شؤونه كلها يوليها اهتماما فائقا، ولا يقدم على أمر إلا بعد دراسته جيدا، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عنوان الكتاب الذي بدأ بكلمة ذكريات، وليس مذكرات. إذا العجيلي يعرف ماذا يقول؛ وبدقة.
***
يتمحور كتاب العجيلي هذا على (أناه) ولا عجب، فهي سيرته الشخصية؛ مدونة على شكل ذكريات. والملفت للنظر أكثر من أي شيء آخر، هو أن العجيلي الذي جاء وزيراً في الحكومة الانفصالية ما فتئ يؤكد على توجهه الوحدوي، واحترامه الشديد للرئيس حينذاك جمال عبد الناصر. فهل مرّد ذلك إلى صحوة متأخرة؟ أم هي الحقيقة غير الماثلة للعيان في الواقع؟
لذلك تراه ما انفك يدفع تهمة الانفصال عن ذاته الفاعلة في حكومة أو حكومات انفصالية، حتى حين يتحدث عن تلك الحكومات، نراه يقدمها على أنها جاءت لرأب الصدع بين سوريا ومصر، واستعادت الوحدة مع مصر، ولكن بالطريقة التي تنتفي بها المآخذ؛ ونقاط الضعف التي أدت إلى تسلل الفكرة الانفصالية إلى نظام الحكم السابق (كان التفكير بإعادة الوحدة أساساً من أسس التسوية التي اتفق عليها في مؤتمر حمص بين فئات الجيش المختلفة، والتي دارت مناقشاتها قبل كل شيء على موضوع الوحدة مع مصر).
الملفت للنظر أيضاً في هذا الكتاب هو خروج العجيلي عن صمته حيال تقييم المرحلة اللاحقة على استوزاره حيث يقول: يذكر الناس عهد الانفصال ويعنون به الفترة التي بدأت في 29 أيلول/ سبتمبر 1961 وانتهت في آذار/ مارس 1963 مع العلم أن الانفصال استمر بعد 8 آذار/ مارس، بل وتحول بعده إلى تمزق وتجزئة. العبارات الموجزة بحق مرحلة ما زالت قائمة، تعتبر بالنسبة لقراء العجيلي جرأة ما بعدها جرأة، لأننا لم نعتد من العجيلي هذا.
فهل كان العجيلي يتلمس حواف مرحلة جديدة في سوريا؟ أم هي مرحلة جديدة في أدب العجيلي؟
أياً كان الجواب يبقى كتاب العجيلي من الكتب المهمة التي تؤرخ لمرحلة غاب تاريخها عن الأجيال اللاحقة وضاعت معالمه.
***
سقى الله تلك الأيام قبل أن تدور الرحى على الرقة وأهلها، آنذاك كان العجيلي رحمه الله، يغذي المكتبة العربية كل سنة بكتاب، ويعتبر نفسه هاوياً؛ وليس محترفاً.
أذكر ذات مرة سألته في أحد الحوارات الصحفية التي أجريتها معه: "42 كتاباً وتعتبر نفسك هاويا؟"، فأجابني بدماثته المعهودة: "أنا طبيب؛ يعني اختصاصي علمي، والفرق بين العلم والأدب لدى الناس، أن الاكتشافات العلمية، لا يعرفها إلا المهتمون، أما الأدب، فإن مقالا في صحيفة قد يقرأه آلاف الناس، لذلك أنت تسألني عن الأدب، ولا تسألني عن العلم، وللعلم أقول لك، إنني أنا من أحضر لقاحات شلل الأطفال إلى سوريا".
وروى لي كيف جلب لقاح شلل الأطفال حين كان رئيسا لفرع الرقة للهلال الأحمر. هذا اللقاح الذي بفضله نجا ملايين الأطفال في سوريا، من الإصابة بشلل الأطفال، لا أحد يعرف أن العجيلي كان وراءه، بينما كلنا نعرف قصص العجيلي ورواياته. هذه المعلومة لم تكن معروفة لأحد، قبل أن أنشرها عن لسانه. لذلك يعتبر العجيلي نفسه محترفا في الحياة العلمية، وهاويا في الحياة الأدبية. أما حياته السياسية فقد وضعها في ملف الذكريات.