حاولت، في الحديث الثقافي السابق، رصدَ وقائع التحولات التي أدت إلى تخلص المثقفين السوريين من العقلية الثنائية (تقدمي / رجعي).. وقد أدى ذلك إلى مصالحة بين تيار يساري عريض مع الأديب عبد السلام العجيلي الذي كانوا يخطئون بحقه ويعتبرونه رجعياً، ومن خلال هاتيك المصالحة ساهمتُ، أنا محسوبكم، بإجراء مقابلة طويلة ومعمقة مع ذلك الأديب الكبير، نشرت في مجلة دراسات اشتراكية سنة (1989)..
وأما حديث اليوم فسأخصصه كاملاً لإضاءة شخصية العجيلي الأدبية والإنسانية.
كان في سوريا أديبان "موسوعيان" شهيران، ظهرا في الثلاثينات، هما حسيب كيالي وعبد السلام العجيلي. تجلت موسوعية حسيب بأنه كان يبدع في الشعر، والقصة القصيرة، والقصة الطويلة، والرواية، والمسرحية، والمقامة، والمقالة الصحفية (وكان يترجم عن الفرنسية أيضاً). الشيء نفسه ينطبق على عبد السلام العجيلي الذي أبدع في كل هذه الأجناس (عدا الترجمة)، إضافة إلى أدب الرحلات، ودَوَّنَ، كذلك، بعض تجاربه الشخصية التي خاضها بوصفه طبيباً، ونشرها في كتابه الشهير "عيادة في الريف".
بعد صدور ديوانه الشعري الوحيد، "الليالي والنجوم" عن دار مجلة الأديب ببيروت سنة 1951، توقف العجيلي عن كتابة الشعر متعمداً، بينما بقي حسيب يكتب الشعر، بحماس، حتى آخر يوم في حياته.
في مقدمة "الليالي والنجوم" يُظهر العجيلي الكثير من التواضع والصدق إذ يقول: ولست أطمع في أكون شاعراً كبيراً، ولعلي لم أشأ نظم قصيدة من قصائد هذا الديوان، بل هي التي شاءت أن تنتظم على لساني بعد أن حاورتها وداورتها، وأنا واثق بأن أكثر ما تضمنته دفتا هذا الديوان أعمال جميلة، ولكني مؤمن بأنها لا تكفي لأن تبني مجدَ شاعر حق.
ويقول في الحوار الذي أجريناه معه سنة 1989:
بدأنا بكتابة الشعر أنا ونزار قباني معاً، ولا بد أن موهبته ومقدرته الشعريتين كانتا أكبر وأهم من موهبتي ومقدرتي. فوصل إلى ما وصل إليه كشاعر عربي كبير له وزنه. ومن جهة أخرى، أصبحتُ أحس بشيء من الحياء من وصفي بالشاعر، ما يعني غلبة العاطفة على الفكر والتعقل.
الحقيقة أن الدهشة القصوى التي حققها العجيلي للقراء ابتدأت في سنة 1948 عندما أصدر مجموعته القصصية الأولى "بنت الساحرة"، وأتبعها بعد ثلاث سنوات بمجموعته الثانية "ساعة الملازم"، ولربما جاء الديوان الشعري متأخراً في النشر (1951)، وقد نظر إليه القراء باهتمام، على ما أعتقد، بعدما تعمقت معرفتهم بالعجيلي القاص المدهش.
في معرض رده عن سؤال يتعلق بكون قصصه متفردة في الأدب السوري أجاب العجيلي، بتواضعه المعتاد، بأنها:
أولاً، تفردت قصصي بأنها مستقاة من تجارب عشتها في حياتي قلَّ أن مر بها أحدٌ من أبناء جيلي، أو الجيل الذي تلاه.
ثانياً، قصصي العلمية لم يَكتب أحد مثلها، لا من جهة الكمال، ولا من جهة النوعية. والكلام نفسه ينطبق على قصصي الوطنية، وقصصي عن الرحلات، وقصصي عن البيئة البدوية.
العجيلي، باختصار، يعزو فرادة أسلوبه إلى فرادة حياته. يقول بهذا الخصوص: حياتي تكاد أن تكون متميزة. فأنا عشت في بلدة نائية، في وسط بدوي عاداتُه وتقاليده وأساليب حياته غريبة، ومختلفة عن سائر بقاع الوطن التي تفرز أدباء وقصاصين.. وفي الوقت ذاته أتيحت لي ممارسات متعددة في السياسة، والحرب (العجيلي شارك في حرب إنقاذ فلسطين)، والأسفار، والاطلاع العلمي، والممارسة الطبية.. هذه الممارسات والعلوم والتجارب أعطتني رصيداً كبيراً للإبداع الأدبي المتعدد المناحي.
في حوار أجراه تلفزيون MBC مع العجيلي سنة 1996، يأتي بأفكار ومعلومات بالغة الأهمية.
أولها أنه؛ حينما تخرج طبيباً في الأربعينات، لم يكن في الرقة التي تساوي مساحتُها مساحة بلجيكا (25 ألف كيلومتر مربع) سوى طبيب واحد، هو الطبيب الحكومي، وعليه فقد كان هناك ضرورة ملحة لأن يفتح عيادة في الرقة. (في هذا إشارة إلى الأخلاق الإنسانية العالية التي عُرفت عنه).
ثانيها: أنه من عشاق العلوم التطبيقية، فبلادنا أحوج ما تكون لمثل هذه العلوم، وتحصيلها صعب، وأما كتابة الأدب (بالنسبة إليه) فكانت، منذ البداية، سهلة.
ثالثها: أن الكتابة الناجحة تأتي من: 1- موهبة مغروسة في إنسان ما. 2- قدرة هذا الإنسان على الملاحظة. 3- حب هذا الإنسان أن يعبر عما يلاحظه..
ويضيف: هذه المؤثرات بدأت عندي منذ الصغر في بيئة الريف البدوي التي عشت فيها.. وإن كنا، يومئذ، نعيش في بيوت حجرية، لكننا نتخلق بطباع البدو المقيمين في الخيام والمضارب. يضاف إلى هذا ما قرأتُه مما تيسر لي في الرقة، ثم في المدرسة الثانوية بحلب، ثم في الجامعة بدمشق من كتب وصحف ومجلات، وما حفظته من قصص وأشعار.
لقائي الثاني مع عبد السلام العجيلي كان في مدينة سراقب 1998. وكنا قد أصبحنا صديقين حميمين، (وبقي طوال حياته يعتقد أنني شيوعي لأنني قابلته لمصلحة مجلة شيوعية).
عندما دعاه مدير المركز بسراقب لأن يلقي محاضرة، سأله: محاضرة في أي شيء؟
قال له: محاضرة حرة. اختر الموضوع الذي ترغب فيه، وقل ما تشاء. المهم بالنسبة إلينا أن نراك بيننا. وعندما قدمه للجمهور قال له:
- دكتور عبد السلام، أنا لا أستطيع أن أعرّف بك. فيا ليتك تعرف الحاضرين بك.
قال العجيلي:
أصارحكم بأن هذا النوع من اللقاءات، والحوارات غير المخطط لها تروق لي، فأجدادنا الأوائل كانوا يكتبون أسفاراً ضخمة على مبدأ "الشيء بالشيء يذكر"،.. يبدؤون بموضوع، ثم يجرهم الحديث فيه إلى موضوع آخر. إن طلبك مني أن أعرف بنفسي يذكرني بأحد أعلام الثقافة العربية الإسلامية الأوائل، وهو "الحريري" (صاحب المقامات الشهيرة) الذي كان قميء المنظر، لا يحب ملاقاة الناس، وذات مرة جاءه رجل، وألح في الطلب لمقابلته، موضحاً لأهله أنه تجشم عناء السفر من بلاد فارس، خصيصاً لكي يراه ويعرفه، فخرج إليه الحريري. وعلى الفور لاحظ الحريري الصدمةَ على وجه الرجل، فأنشده قائلاً:
ما أنت أولُ سـارٍ غَـرَّهُ قمرٌ ورائدٍ أعجبتـْهُ خضــرةُ الدِّمَنِ
فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ مثل "المعيدي" اسمع بي ولا تَرَني!
استمرت المحاضرة حوالي ساعتين، تحدث فيها العجيلي بما يعادل الأسفار التي كان أدباؤنا القدامى يؤلفونها بالتداعي. ولعل أطرف شيء كان حديثه عن علاقة الطب بالأدب. إذ قال:
- وأما عن الأدباء الذين جاؤوا إلى الأدب من عالم الطب فلعل أشهرهم أنطون تشيخوف الذي قال حينما سئل عن توزيعه وقته بين الطب والأدب: الطب زوجتي والأدب عشيقتي. وكأنه أراد أن يقول إن (الطب) كالزوجة، له الإخلاص، والواجب، ودفء الحياة العائلية، وأما اللذة والمتعة فتجدهما عند العشيقة (الأدب).
أذكرُ، بهذه المناسبة، موقفين طريفين، أولهما أن الأستاذ شريف العَلَمي، وهو مذيع معروف في إذاعات الخليج، أجرى حواراً أدبياً إذاعياً معي لإذاعة الكويت، وسألني هذا السؤال حول الطب والأدب، فذكرت له مقولة تشيخوف "الطب زوجتي والأدب عشيقتي!"، فأوقف التسجيل وقال لي:
- أرجوك، في إذاعة الكويت لا يقبلون استخدام كلمة "عشيقتي".
قلت له: نقول "خليلتي"!
قال: ولا هذه.
قلت: صديقتي.
فقال: يعني.. مقبولة!
واستأنف التسجيل.
وثانيهما أن جريدة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن كانت تُصدر ملحقاً أسبوعياً على شكل مجلة مستقلة، أجرى، قبل سنوات، حواراً مطولاً معي، كررتُ فيه مقولة تشيخوف، وفي اليوم التالي صدر العدد وعليه صورتي وعبارة:
عبد السلام العجيلي يقول: الطب زوجتي والأدب صديقي!