يجلس عبد الحميد اليوسف أمام قبر طفليه التوءم ممسكاً حفنة ترابٍ ويشمّها بعمقٍ ليُعطّر أنفاسه برائحة روح ابنيه، وهو يستذكر بألمٍ وحرقةٍ كيف دفنهما بيديه بعد أن فارقا الحياة إثر مجزرة الكيماوي المروعة التي ارتكبها نظام الأسد في مدينة خان شيخون بريف إدلب قبل عامين، والتي راح ضحيتها خنقاً 100 ضحية، ربعهم من أفراد عائلة عبد الحميد وأقاربه.
في الرابع من نيسان عام 2017 استفاقت خان شيخون على وقع مجزرةٍ مروعةٍ ارتكبها طيران النظام، والذي استخدم الغازات السامة المحرمة دولياً في قتل المدنيين الأبرياء، وسرعان ما انتشرت صورٌ هزت العالم لأطفال بدوا وكأنهم نيام، لم يسعفهم احتماؤهم بالملاجئ من السلاح الأخطر الذي استخدمه النظام، بل جعلهم ضحايا مجزرة مروعةٍ دون أن تسيل منهم قطرة دم، فكانوا (شهداءَ بلا دماء).
عبد الحميد اليوسف أحد الناجين من تلك المجزرة المروعة، لكنه تمنى لو كان بين قائمة الضحايا، فلسان حاله يقول: "أي حياةٍ سأعيشها بعد أن فقدت أغلى الناس في حياتي، زوجتي دلال وطفليّ التوءم (أحمد وآية)، إضافةً إلى عشرين آخرين من أهلي وأقربائي".
يروي عبد الحميد ما حصل في ذلك اليوم قبل عامين قائلاً لـ تلفزيون سوريا: "في الساعة السادسة والنصف صباحاً يوم الرابع من نيسان عام 2017 استيقظنا على أصوات قصفٍ عنيفٍ طال المدينة، فخرجت مع عائلتي مسرعين عندها بدأنا نشتم روائحَ كريهةً وبدأ أطفالي بالسعال الشديد، فطلبت من زوجتي أن تصطحب أطفالنا فوراً إلى بيت أهلها ريثما أسعف بعض المصابين الذين شاهدتهم ممددين على الأرض".
وأضاف عبد الحميد "بعد أن أسعفنا بعض المصابين، توجهت مسرعاً إلى بيت أهلي، وهنا كانت الصدمة التي لا أنساها حتى الآن، حيث شاهدت أخي ياسر وهو مستلقٍ على الأرض وفي أحضانه ابنه الصغير عمار وقد اختنقا وفارقا الحياة، حاولت أن أتمالك نفسي وتوجهت إلى باقي غرف البيت لأجد أيضاً أخي الثاني عبد الكريم وأولاده وزوجته ممددين أرضاً وقد توفوا أيضاً، لكن ابنة أخي كانت لا زالت ترتجف ويخرج الزبد من فمها، وحين حاولت حملها لإسعافها فقدت الوعي تماماً متأثراً باستنشاقي غاز السارين".
عناصر الدفاع المدني المعروفين "بالخوذ البيضاء" أسعفوا عبد الحميد اليوسف إلى المشفى مع مئات المصابين، وبعد أربع ساعات خرج عبد الحميد من المشفى بحثاً عن زوجته وأطفاله، ليتلقى صدمةً جديدةً بعد أن علم بوفاتهم إلى جانب أكثر من عشرين شخصاً آخرين من أهله وأقاربه.
بعد ساعات من الأسى والدموع، أخذ عبد الحميد اليوسف صاحب الـ25 عاماً طفليه أحمد وآية وحملهما كالقابض على الجمر، في صورةٍ حرقت قلوب العالم على مواقع التواصل الاجتماعي، ومشى إلى المقبرة ليدفنهما إلى جانب زوجته وأخويه الاثنين وزوجاتهما وأولادهم الثلاثة وأولاد عمه، ليبقى وحيداً يعيش على ذكرى نسمة هواءٍ سامةٍ قتلت عائلته، ليعود اليوم بعد عامين إلى ذات المكان وفي قلبه حرقةٌ بأنه ترك أطفاله وزوجته ولم يستطع إسعافهم بعد أن انشغل بإسعاف باقي المصابين.
شهداءُ بلا دماء
لم يكن "عبد الحميد اليوسف" الوحيد الذي فقد عائلته، فكان هناك المئات من سكان خان شيخون الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم، فكل شخصٍ بقي على قيد الحياة عقب تلك المجزرة، لديه قصةٌ وحكايةٌ عن أبشع طرق الموت قتلاً، حيث الموت بلا دماء.
حسين كيّال أحد شهود العيان على مجزرة خان شيخون يروي ما حصل قائلاً: "سمعت دويّ أربع غارات جوية متتالية فخرجت من بيتي مسرعاً، عندها لاحظت الناس يتراكضون في كل مكان، بعضهم يحمل أطفالاً يرتجفون والزبد الأصفر على فمهم، وبعضهم الآخر يسألون عن أهلهم وأقاربهم، عندها سمعت عبر قبضات المراصد أن هناك هجوماً بالغازات السامة، فعدت إلى البيت ولبست كمامة وسارعت لإسعاف المصابين".
وأضاف حسين لـ موقع تلفزيون سوريا، "حين خرجت إلى الشوارع كان مشهداً مفجعاً لا يوصف وكأنه يوم القيامة، فمئات الناس مستلقين على الأرض ليس عليهم أي قطرة دم، بعضهم فارق الحياة وبعضهم الآخر عيونهم مفتوحة وجاحظة، ولون بشرتهم تحول إلى الزرقة، وأفواههم يخرج منها الزبد، وأطرافهم وقبضاتهم مشدودة ومصابة بتشنجات، بينما يرش عناصر الدفاع المدني وابلاً من المياه عليهم لإزالة آثار الكيماوي على أجسادهم".
وتابع حسين قائلاً: "توجهت مع بعض الأشخاص نحو المنازل لإسعاف المصابين وصرنا نخلع الأبواب وندخل، كنت متوقعاً أن أرى جثثاً تحت الركام أو مغمورةً بالدماء أو مقطّعة الأشلاء، لكن ما شاهدته هو أجسادٌ بلا أرواح وكأنهم نيام".
وأشار حسين إلى أن "عبد الحميد اليوسف الذي فقد 25 شخصاً من عائلته لم يكن الوحيد الذي تلقى الفاجعة، فقد كان هناك 100 شهيدٍ جراء مجزرة خان شيخون وأكثر من 500 مصاب، وحتى إن هناك عائلات توفيت بالكامل، لكن انتشار الصور ومقاطع الفيديو التي تُظهر عبد الحميد وهو يحمل جثث أطفاله ويروي مأساته، أدى إلى تسليط الضوء عليه دون باقي الضحايا".
على أهبة الاستعداد
وفور وقوع القصف، سارع عناصر "الخوذ البيضاء"، إلى إنقاذ المصابين. مدير الدفاع المدني في إدلب مصطفى الحاج يوسف يروي تفاصيل المجزرة قائلاً: "في الصباح الباكر رصدت مراصد الدفاع المدني تنفيذ النظام لأربع غارات جوية على الحي الشمالي لمدينة خان شيخون، فقام الدفاع المدني بالاستجابة كالعادة على أساس إنها مجرد غارات بالأسلحة الفراغية، لذلك تم إرسال فريقٍ للقيام بعمليات الإنقاذ".
وأضاف الحاج يوسف "حين وصلوا إلى مكان الغارة بدأت تصلنا نداءات استغاثة من فريق الدفاع المدني بأن الغارة ليست تقليدية، حيث تعرض أحد عناصر الفريق للإغماء، عندها تم إرسال فريق آخر بعد أن أخذ الحيطة والحذر، وتم إسعاف المدنيين إلى النقطة الطبية الوحيدة التي كانت موجودةً في خان شيخون، كما أن هناك مدنيين أسعفوا مصابين إلى القرى والبلدات المجاورة للمدينة أو نحو معبر باب الهوى الحدودي".
وواجه عناصر الدفاع المدني في ذلك اليوم الكثير من الصعوبات، فليس هناك أقنعةٌ واقيةٌ ضد الغازات السامة، ما اضطرهم لارتداء كمامات عادية، كما أن فرق "الخوذ البيضاء" حينها لم تكن على أتم الجهوزية، ما تسبب في تعرض عدة عناصر من الفريق الأول الذي قام بالاستجابة للغارة لحالات اختناق وتم إسعافهم مع المدنيين، وفق ما ذكر الحاج يوسف.
وتابع قائلاً: إن "الصعوبات تمثلت أيضاً في أن النظام السوري استهدف كذلك عدة نقاطٍ طبيةٍ في ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي قبل هجوم خان شيخون بيومٍ أو يومين، كي يمنع فرق الدفاع المدني من إسعاف المدنيين بسرعةٍ عقب الهجوم الكيماوي، وبالتالي يحصد أكبر عددٍ ممكنٍ من الضحايا".
المجتمع الدولي متفرجاً
عقب الهجوم الكيماوي على خان شيخون تصاعدت الأصوات المنددة بالجريمة البشعة التي ارتكبها بشار الأسد، وقامت الولايات المتحدة الأميركية بعد أيام، بتنفيذ ضربة عسكرية على مطار الشعيرات العسكري الذي أقلعت منه الطائرة التي نفّذت الهجوم على خان شيخون.
وأكدت باريس وواشنطن أنهما لن تتسامحا مع الإفلات من العقاب حول استخدام أسلحة كيماوية في سوريا، كما دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى وجوب محاسبة النظام على الهجمات الكيماوية، بينما تواصل روسيا والنظام نفى كل الاتهامات بشن أي هجمات كيماوية.
لكن يرى رئيس أركان إدارة الحرب الكيميائية في جيش النظام سابقاً اللواء عدنان سلو، أنه "رغم مرور عامين على الهجمات الكيماوية لنظام بشار الأسد على خان شيخون، لا يزال المجتمع الدولي عاجزاً عن محاسبة هذا المجرم، كما أن روسيا خرقت التزاماتها كضامن لتدمير مخزون الأسد من الأسلحة الكيماوية ومنعه من استخدامها".
وأضاف سلو أن "الأسد خدع العالم، فرغم الوعد الذي قطعه على نفسه عام 2013 عقب هجوم الغوطة الشرقية بريف دمشق، بأن يتخلى عن أسلحته الكيماوية، إلا أنه بدا بمظهر المتعاون مع المفتشين الدوليين بينما في السر كان يحتال، فترسانة الأسد الكيماوية تبلغ قرابة ثلاثة آلاف طن، سلّم منها للجنة التحقيق 1300 طن، وهو الرقم الذي صرح به، وبقي بحوزته 1700 طن".
وأشار سلو إلى أن "كوريا الشمالية وروسيا والصين يزودون الأسد منذ سنوات بالمواد الأولية لتصنيع السلاح الكيماوي، كما أن هناك شركة ألمانية خاصة غير مرتبطة بالحكومة، ترسل مواد أولية كيماوية للأسد عن طريق المافيات، ويوجد عند النظام أيضاً خبراء سوريون وإيرانيون وروس وكوريون لتحضير تلك الأسلحة".
من جهته قال عبد الحميد اليوسف: إن "المجتمع الدولي لا يزال يقف متفرجاً بعد مرور عامين على مجزرة الكيماوي، وهو ما شجّع الأسد على زيادة إجرامه، وحتى اليوم خان شيخون تتعرض للقصف"، مضيفاً "توقعنا أن يحاكم المجتمع الدولي الأسد على جرائمه لكنه خذلنا، ويوماً بعد يوم يُثبت لنا قادة العالم أن أخلاقهم دُفنت تحت أقدام السوريين، لكن نحن متمسكون بحقنا ومصرون على محاسبة الأسد كمجرم حرب مهما طال الزمن".