الصدمة الأولى جاءت عندما - وببساطة شديدة- قام رجل مصري بقتل طفل مصري ونزع أحشائه، وعمل على تصوير كل ذلك بكاميرا هاتفه المحمول، أما الصدمة الثانية فقد جاءت عندما تبين أن المحرض على هذا الفعل هو طفل مصري أيضاً، عمره 15 عاماً ويعيش خارج مصر.
باختصار هي لعبة الحصول السريع على الثروة، لا يهم من أجل ذلك طريقة الحصول عليها، قتل، أو مخدرات، أو دعارة، أو تجارة سلاح أو تجارة أعضاء بشرية..الخ، والمفتاح إلى هذا العالم الغارق في هوسه للمال هو الشبكة العنكبوتية، ففيها يمكن أن نكتشف وجهاً آخر لعالمنا الراهن، وجه قد لا تتيحه لنا وسائل الإعلام العادية التي هي بين أيدينا.
أتاح الإنترنت اليوم مساحة سوداء، غير مرئية، ينشط فيها عشرات الملايين، وربما مئات الملايين ممن استحوذ عليهم هوس مجنون لكسب المال والشهرة، فقاتل الطفل المصري كان قد وُعد بخمسة ملايين جنيه مصري مقابل ما فعله، والمحرض على الفعل أي الطفل المصري الآخر، كان قد وعد بمبالغ طائلة حسب التحقيقيات التي أجريت معه، مقابل بيع الفيديو الذي يصور عملية قتل الضحية وانتزاع أحشائه، ولم تظهر التحقيقات أية دوافع أخرى سوى البحث عن المال.
في عالم الذكاء الصناعي وتطور تقنيات التواصل، يصبح الحديث عن الخطر الذي يتهدد البشرية ملحّاً وضرورياً.
على اليوتيوب، والانستغرام، والتيك توك، وغيرها يتسابق الكثيرون للحصول على المزيد من المتابعين والمشاهدات، فالمشاهدات أصبحت بورصة والمتابعون كذلك، وليس هناك أية ضوابط تحدد للناشطين في وسائل التواصل هذه حدود ابتذالهم، أو مدى بشاعة ولا أخلاقية ما يقدمونه، والفاجع أن هذه اللعبة المجنونة لم تجذب فقط الشرائح غير المثقفة أو غير الواعية لمخاطرها، بل جذبت مشاهير، وفنانيين عالميين، ومثقفين، وسياسيين ومفكرين ومن كل الفئات والشرائح، والتي يفترض بها أن تحمي المجتمع الإنساني من خطر انهيار الثقافة والأخلاق.
في عالم الذكاء الصناعي وتطور تقنيات التواصل، يصبح الحديث عن الخطر الذي يتهدد البشرية ملحّاً وضرورياً، ولا يكفي القول: إن أي اكتشاف علمي هو سلاح ذو حدين، ليُبرر اليوم السكوت عن فظاعة المخاطر المحتملة، فعندما اكُتشف الديناميت، أو السلاح النووي أو غيرها من الاكتشافات التي غيرت مصير البشرية، كان من الممكن حصر استخدام هذه الاكتشافات الخطيرة بأيدي الحكومات والدول، وشكّل هذا ضمانة إلى حد ما بأن يكون استخدامها مسيطراً عليه، لكننا اليوم أمام إشاعة امتلاك هذه التقنيات المتطورة وجعلها مباحة لمن يريد، يضعنا جميعاً أمام خطر حقيقي.
لا أريد القول هنا أنني أقف ضد إطلاق المعرفة والتقنيات التي أتاحها لنا عالم الإنترنت، لكن لا بدّ للبشرية من أن تجد الآليات التي تجعل من هذه الوسائل غير مدمّرة، ويمكن التحكم بها، وحصر استعمالها في وجهها الإيجابي، ولا بدّ من إقرار نصوص قانونية عالمية تعاقب الجريمة التي تنمو بسرعة كبيرة، داخل العالم الواسع الذي ولدته شبكة المعلومات العالمية.
الخبير في مجال تكنولوجيا المعلومات "وليد حجاج" يقول لـ "العربية.نت": الإنترنت الذي نتعامل معه عبارة عن 3 مستويات: الأول، هو المعروف لنا جميعاً، والذي نتصفحه عبر المتصفحات الرئيسية مثل "غوغل كروم" و"فايروفوكس "وغيرها ، وهذا يمثل 3% من الإنترنت، والثاني، ما يسمي بالإنترنت العميق، ويمثل نسبة 97% وبداخله قسم صغير يسمى "الإنترنت المظلم" أو ما يعرف بـ" بالدارك ويب"، وهو قسم يتم التداول فيه على كافة المجالات والممارسات المشبوهة مثل تجارة الأعضاء، والسلاح، بل المخدرات، والدعارة والاغتيالات وغيرها ومن خلال معاملات مالية إلكترونية ك"البيتكوين"، بحيث لا يتم معرفة البائع والمشتري أو الوصول إليهما.
لم يعد السكوت أو العجز عن التصدي للباحثين عن الشهرة، أو المال، او التسلية أو السفاهة على حساب الآخرين وألمهم ومستقبلهم مقبولاً.
إذا كان القضاء المصري يتعامل اليوم مع قضية قتل الطفل المصري، أو مايعرف اليوم باسم "جريمة طفل شبرا"، بصفتها جريمة قتل موثقة ومصورة، فكيف يمكننا اليوم أن نتعامل مع من يرتكبون جرائم أخرى ليست مادية لكنها تتفوق في بشاعتها، وتتسبب بنتائج خطيرة جداً على مستوى البشرية كلها، أو على مستوى مجتمع ما؟
في سوريا استعملت وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة ابتزاز وإرهاب تسببت بكوارث كبرى، ومن ارتكبوا هذه الجرائم المعلنة كانوا مطمئنين إلى عدم القدرة على محاسبتهم، فمن سيحاسب من حرضوا على إبادة أهل درعا، أو حمص، أو إدلب، ومن سيحاسب من يسوقون الجريمة التي ترتكبها عصابة النظام الأسدي بحق السوريين، ومن سيحاسب أولئك الذين يعملون اليوم لترسيخ الشرخ الطائفي أو القومي أو المناطقي في السوري، والذين لا يأبهون لمدى خطورة ما يفعلونه، وينحصر اهتمامهم فقط بعدد متابعيهم، ومردود ذلك مادياً عليهم، ومن أجل ذلك لا يتورعون عن اللجوء لخطاب شعبوي يرتكز على استثارة الدم والحقد، هؤلاء كيف يمكن محاسبتهم، ومن هي الجهة المخولة بتحديد مدى خطورة الجريمة التي يرتكبونها، لا سيما أن دولاً كثيرة لم تضع قوانين واضحة للجرائم الإلكترونية؟!
إذا كانت دول كبرى متطورة ومستقرة، وتملك قوانين لمكافحة الجريمة الإلكترونية، تقف حائرة ومترددة أمام الجرائم التي يشهدها عالم الإنترنت، فكيف يمكن لبلد منهار، ترتكب سلطته أفظع الجرائم باسم القضاء والقانون أن يوقف الجرائم التي لا تقل خطورة بحق وحدته وبحق أبنائه، والتي تشهدها وسائل التواصل الإجتماعي كل ساعة؟
إنها مسؤولية كبرى تضعها الظروف الراهنة على كاهل السوريين، فلم تعد الأولويات محصورة بالسياسة، والاحتلالات، والمعتقلين وغير ذلك من القضايا بالغة الأهمية، بل أصبحت هذه الجرائم من الخطورة ما يحتم عليهم مواجهتها، لأن خطر تفتيت النسيج السوري، وتعزيز انقساماته، وتعميم خطاب الكراهية والحقد على راهن سوريا ومستقبلها لا يقل عن خطورة بقاء عائلة الأسد، واستباحة سوريا من احتلالات عدة.
إن تجريم الخطاب الطائفي، وتجريم المتاجرة بثورة السوريين ودمهم وآلامهم وتضحياتهم، لم يعد مهمة يمكن تأجيلها لمرحلة قادمة، كما يحاول الكثير من السوريين القول. هذا التأجيل الذي مكّن المتاجرين وعزز من وجودهم، ويزيد كل يوم من صعوبة مواجهتهم، وكان عاملاً مهماً في استنقاع الوضع السوري واستمرار سلطة عائلة الأسد، وعليه فإن السكوت عنه أصبح خطراً حقيقياً سندفع جميعاً ثمنه.
لم يعد السكوت أو العجز عن التصدي للباحثين عن الشهرة، أو المال، أو التسلية أو السفاهة على حساب الآخرين وألمهم ومستقبلهم مقبولاً، وإن كان العالم الافتراضي يتيح لهؤلاء أن يُمارسوا بشاعتهم بلا حدود وبلا خوف من المساءلة، فإن هذا العالم ذاته يتيح لمن يرفضهم أن يبتكر وسيلة لردعهم.