ترفض مارييلا شاكر لبيتها أن ينأى بنفسه عن مرمى السمع، فعازفة الكمان هذه التي تبلغ من العمر 33 عاماً، وتنحدر أصولها من حلب، أصبحت اليوم مواطنة أميركية تقيم في لندن، إذ قطعت رحلة مضنية منذ عام 2011 حتى وصلت إلى هنا، وذلك عندما بدأ النظام السوري بقمع الناس فوضع البلاد على مسار هوى بها نحو الفوضى. وهكذا تحولت مارييلا إلى لاجئة من بين 6.8 ملايين لاجئ فروا من سوريا منذ أن وقعت فريسة للحرب، في حين تحول 6.9 ملايين سوري آخرين إلى نازحين في الداخل السوري، فظهرت بذلك أكبر أزمة لجوء على مستوى العالم، بل كانت كبيرة بما فيه الكفاية لدرجة لم تسترعِ انتباه بعض الأفراد.
في هذه الأثناء، أصبح العبء أثقل، بعدما غدا أكثر من ثلثي الشعب السوري بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية، ثم جاءت سلسلة الزلازل المدمرة التي ضربت البلد في شهر شباط الماضي، فحصدت أرواح 46 ألف نسمة في كل من الجنوب التركي وشمال غربي سوريا. ومنذ ذلك الحين، واللاجئون الذين يعيشون في دول الجوار، أي لبنان والأردن وتركيا، يعانون بسبب النفقات التي زادت عليهم، وعدم توفر المأوى الكافي لهم، ناهيك عن تعرضهم لحالة انعدام الأمن الغذائي بمستويات خطيرة، كما وثقت تقارير نشرت خلال الأسبوعين الماضيين زيادة في عمليات ترحيل اللاجئين من لبنان إلى سوريا.
مع دخول هذه الأزمة عامها الثالث عشر، بقيت شاكر تعاني بسببها كما كانت دوماً، بما أنها لم تعد تدري إن كان بوسعها أن تعود إلى المكان الذي رسم معالم حياتها وشكلها لتصبح فنانة.
الموسيقا جسر للنجاة
في عام 2008، عندما كانت شاكر في الثامنة عشرة من عمرها، وقع عليها الاختيار لتصبح أصغر معلمة كمان في المعهد العربي للموسيقا، فحصلت على وظيفة بدوام كامل، وحاولت التوفيق بين عملها ودراستها لإدارة الأعمال التي كانت تستهلك كل وقتها في جامعة حلب. وهي تتذكر اليوم كيف كانت تركب المواصلات لتصل إلى المعهد وتدرس طلابها في الوقت الذي كانت فيه القذائف تدمر المدينة من حولها، تلك المدينة التي تعرفها تمام المعرفة، لكنها أخذت تنهار وتحترق أمام عينيها.
طلبت شاكر اللجوء في الولايات المتحدة بعدما نجت من الهجمات التي استهدفت جامعة حلب عام 2013، إذ بالكاد تمكنت من الهرب من المدينة عبر رحلة بالحافلة استغرقت 17 ساعة وتعرضت لحالات توقف كثيرة بسبب القذائف ونقاط التفتيش بما أن صندوق كمانها لفت أنظار الجنود فأخذوا يفتشونه بدقة. وبمجرد أن تحررت من كل ذلك، حصلت شاكر على تأشيرة طالب ومنح دراسية متعاقبة سمحت لها بمتابعة دراستها للموسيقا في الولايات المتحدة، حيث درست في البداية بجامعة مونماوث بإيلينوي، ثم بجامعة دي بول بشيكاغو، حيث درست على يد عازفة الكمان أولغا كيلر.
عادت منذ ذلك الحين للعزف والتعبير عبر الاستعانة بالموسيقا لإيصال رسالتها التي تدور حول محنة السوريين، ونزوح شعبها، وسعيه للبقاء تحت دائرة الضوء حتى يراه الجميع ويسمعه. وفي عام 2015، كرم الرئيس الأميركي باراك أوباما شاكر على عملها في البيت الأبيض، ومنحها لقب بطلة التغيير من أجل اللاجئين في العالم، وعن ذلك تحدثنا فتقول: "يدور كل ذلك حول الفتيات اللواتي يتمتعن بوضع مثل وضعي واللواتي يحاربن كل يوم حتى يسمع العالم صوتهن وحتى يستعدن أحلامهن ومستقبلهن".
في اليوم العالمي للاجئين الذي يوافق 20 حزيران، من المقرر لشاكر أن تعود لواشنطن يوم 23 حزيران لتقدم عرضاً موسيقياً على منصة الألفية في مركز كينيدي دعماً للمفوضية العليا للاجئين، وسيرافقها عازف بيانو هو زوجها، رياض نيكولاس، الذي تربى معها في الشارع نفسه الذي سكنا فيه بمدينة حلب.
ومن بيتها في لندن، تقول لنا شاكر: "تمثل الموسيقا كل شيء بالنسبة لي، فهي الجسر الذي أنقذ حياتي، وربطني بالمجتمعات، وفتح لي أبواب المستقبل ومنحني صوتاً ليصبح بمقدوري استخدام آلتي الموسيقية كأداة لبناء السلام، إذ لا يمكنني أن أقيم أو أسافر إلى أي مكان دون أن أجلب كماني معي"، ولهذا أسست أكاديمية هيغامز بارك للموسيقا، وأصبحت مديرتها.
تحدثنا شاكر عن نشأتها فتقول:
"أرادت أمي لي ولأخي أن نتعرف على أنشطة مختلفة، فكانت الموسيقا إحداها، ولقد أحسست بشيء ربطني بالموسيقا منذ ذلك الحين، إذ عندما حصلت على كمان شعرت بأنه شيء ثمين فعلاً وبأن علي أن أعتني به كثيراً، ثم بدأت باكتشاف ذلك بمفردي، قبل أن أحضر درسي الأول، وأعني بذلك كيف أعبر عن موضوع "أنشودة الفرح"، ولهذا كنت أسابق نفسي، وأطالب معلمي بأمور أكثر مما هو مطلوب منه، إذ كنت أسأله: كيف أعزف هذه؟ وكيف أعزف تلك؟ ثم صرت أرافقه في عروضه الموسيقية، وبما أنه أرمني فقد أطلعني على مختلف أنواع الموسيقا الأرمنية، والآن، وبعد كل ما جرى في سوريا خلال الحرب، ما تزال هناك صلة وثيقة تربطني بمعلمي".
نقطة تحول
عندما سئلت شاكر عن التغيير الذي حصل في حياتها بعدما انتقلت للعيش في أميركا كطالبة في الوقت الذي كان كابوس الحرب فيه يطبق على بلدها، قالت:
"كان التغيير كبيراً، إذ كانت جامعة مونماوث باردة جداً، والجميع فيها يمتلك سيارة، إلا أنا، لأني بالكاد كنت أتدبر أموري، ولو عملت بجد، كنت أكافئ نفسي حينذاك بشطيرة من Subway، ثم إن كل الطلاب حولي كانوا يتحرقون شوقاً لرؤية أهلهم وأقاربهم وأشقائهم وشقيقاتهم خلال عطلة الصيف، أو عطلة عيد الميلاد وعيد الفصح، أما أنا فلم يكن لدي من أذهب إليه باستثناء كماني، ولهذا كنت أمضي في قاعة التدريب يومياً الساعات الطوال وأنا ساهرة لما بعد منتصف الليل، أما اللغة الإنكليزية فكانت صعبة علي، خاصة عندما يتعلق الأمر بكتابة مقال من خمسة آلاف كلمة، ولذلك لم أكتب على الإطلاق، وهذا ما جعلني أحس وكأني أغرق، إذ لم أكن أنام سوى لثلاث أو أربع ساعات باليوم".
وعن التحول من العزف إلى مناصرة اللاجئين، تقول شاكر:
"لم أفكر بذلك البتة في حقيقة الأمر، إذ في بداية وصولي إلى مونماوث، كان كل ما أريده هو أن أتدرب على عزف الكمان دون أن ينتبه أحد لي، فقد كنت خائفة على أهلي في سوريا، وعلى حياتهم هناك، لأسباب كثيرة، ولهذا كنت أحبس نفسي في قاعة التدريب على الدوام.
وفي أحد الأيام أصر أحد الصحفيين على إجراء مقابلة معي بما أني طالبة الموسيقا الوحيدة الموجودة في الكلية، وبعدها تواصل معي صحفيون كثر، ثم منظمات كثيرة موجودة في الولايات المتحدة وذلك بهدف تقديم عروض موسيقية لديها. إلا أن الجميع في جامعة مونماوث كانوا يعرفونني بالشخصية الخجولة المرتبكة على الدوام الموجودة في قاعة التدريب دوماً، وفجأة خرجت عليهم من على خشبة المسرح وأنا أتحدث الإنكليزية، فكانت تلك نقطة تحول بالنسبة لي.
ومنذ ذلك الحين، سخّرت نفسي لهذه الرسالة وللموسيقا لأني أعرف مدى صعوبة أن يكون المرء لاجئاً بعيداً عن أهله وبلده، وغير قادر على رؤية أصدقائه أو أقربائه مرة أخرى".
وعن برنامج الحفل في مركز كينيدي تقول شاكر:
"سأبدأ بسوناتا لموزارت على الكمان والبيانو، وسأعزف مقطوعة لفريتز كرايسلر، إلى جانب مقطوعة لكاهن ومؤلف موسيقي أرمني اسمه كوميتاس، في حين سيعزف زوجي رياض "الرقصة الهنغارية الثانية" لفرانز ليست، وسنختتم البرنامج بمقطوعة "أمواج البحر" وهي مقطوعة مشهورة في الشرق الأوسط قام مياس اليماني بتوزيعها لتعزف على الكمان والبيانو".
بالحديث عن الشعب الأميركي، وهل هو على دراية بما يجري في سوريا أم أنها تحس بأنها تعيد تقديم الموضوع له في كل مرة تعزف أمامه، تخبرنا شاكر فتقول:
"قد نجهل الكثير من الأمور في الحياة بسبب الانشغالات، ولكن في نهاية المطاف لا يمكن وصف الحياة بالسهلة حتى في الولايات المتحدة، وذلك لأن على الجميع أن يعمل ويكدح بجد حتى يؤمن قوت يومه.
وبما أن الموسيقا تمثل طريقة لمخاطبة القلوب قبل العقول، لذا بوسعها أن تجعل المرء يحس بمدى معاناة غيره من البشر، إذ إننا نسمع في الأخبار أرقاماً عن الآلاف من الناس الذين يموتون هناك أو الآلاف الذين أصبحوا لاجئين اليوم، لذا يمكن للموسيقا أن تؤنسن تلك الأرقام، لتكشف للجميع بأننا لسنا مجرد أرقام، بل لكل منا قصة بوسعه أن يسردها".
سألنا شاكر عن رأيها بتلك النزعة لسماع الأشياء مجردة من كل شيء وهذا ما نجده في الموسيقا، لأن معظم الأعمال الموسيقية الكلاسيكية التي نستمتع بها تقوم على قصص الحروب والنضال والمصاعب في الحياة، ولكننا نسمعها على سبيل الترويح عن النفس، فقالت:
"حتى الموسيقيين المحترفين الذين يكونون في غاية الانشغال بعملهم في بعض الأحيان لا يفكرون بالقصة التي يحملها هذا النوع من الموسيقا، بل يفكرون بحركات أصابعهم على الأوتار أو أصابع البيانو وبالأسلوب والطريقة التي يقدمون بها العمل على أكمل وجه، أي إنهم ينسون أحياناً أبسط رسالة للموسيقا ألا وهي الإنسانية".
المصدر: Washington Post