عائداتٌ للحياة

2024.07.04 | 06:11 دمشق

6333333333333333333345
+A
حجم الخط
-A

حين خرجت من السجن وعدت للحياة، اعتقدتُ، وشاركني اعتقادي كل من حولي، أنني خرجت قوياً سليماً ومعافى.

متأخراً، بعد سنين طويلة، سأدرك خطئي، وأن العودة للحياة كانت تحتاج لعمل كبير لمعالجة ما أصابني من شروخ في سنوات السجن تلك، الأمر الذي لم أكن أدركه حينها. كنت كأي سجين أمضى فترة طويلة، أحتاج للمساعدة والدعم من اختصاصيين، لتبديد البقع التي خرّبها السجن في الروح والذاكرة. عندها كان يمكن أن أصبح حقاً شخصاً سويّاً.

يومها انتبهتُ، باستخفاف مع بعض الفكاهة للشكليّات. كان يجب أن أتعلم التعامل من جديد مع المفتاح الذي غاب عني لسنوات، ومع قبضة الباب التي يجب أن أديرها بنفسي بلا سجان، فهو من كان يفعل ذلك على الدوام. أكثر من ذلك، أمضيت شهوراً حتى اعتدت، دون أن أشعر بالغرابة، الجلوسَ على الكنبة والكرسي، وأن تتهدل ساقيَّ إلى الأسفل، بعد سنوات كنت فيها جالساً على الأرض. بل إني ارتبكت أياماً عديدة في العودة للتعامل مع النقود الورقية والمعدنية. لكن أبداً لم يشغلني ما كان قد تحطّم في داخلي.

على الأغلب، يذكر بعضكم فيلم المنبوذ "Cast Away" للممثل الأميركي توم هانكس. الذي اعتُبر بمثابة قصة محدّثة عن حكاية "روبنسون كروز". تسقط طائرة شركة نقل البضائع التي يعمل بها "تشاك نولاند" في المحيط، وينجو وحيداً ويصل إلى جزيرة صغيرة لا حياة فيها، ليتم إنقاذه بالمصادفة بعد سنوات ويعود للحياة، بعد أن كان متوفىً في الأوراق الرسمية، وفي ضمائر من يعرفونه أيضاً، بمن فيهم حبيبته التي تزوجت وأنجبت. سيقول له صديقه "غداً يوم مهم. إعادة رجل للحياة تحتاج إجراءات كثيرة. غداً سنعيدك للحياة".

تصادف لي قبل أيام أن شاهدت تقريراً مصوراً قصيراً، عن امرأة عائدة من "مخيم الهول". كان التقرير منشوراً تحت وَسْم "عائدات للحياة". شاهدته من باب الفضول، الحقيقة من باب الإعجاب بالوسم أكثر. وما كان ليؤثر بي إلى درجة القهر، بعد مشاهدته لولا أن سمعت من السيدة التي ظهرت به ما سمعت. كانت المرأة تتحدث عن طبيعة حياتها وأطفالها بعد الخروج من مخيم الهول.

"هنا أخذت أولادي إلى (مدينة الملاهي)، ذهبنا للحديقة والجسر على نهر الفرات. صارت لديهم نظرة أوسع للحياة".

سيدة من مدينة تدمر، تصنع الحلويات لبيعها، بعد أن خضعت لدورة تدريبية لصنع الحلوى، وشاركت في معرض للمنتجات يحمل نفس العنوان "عائدات للحياة". تقول بأنها صارت معروفة اليوم بمهنتها في المحيط، وتفكر حالياً بصناعة حلويات للأطفال من مرضى السكر (أشارت إلى أنها كانت تدرس العلوم الصحيّة). كانت السيدة قضت أربع سنوات في مخيم الهول مع أطفالها. لتذكر بعدها جملة صغيرة جعلت كل غضب وحزن الكرة الأرضية يجتاحني.

عن اختلاف أجواء العيد في مدينة الرقة، مع ما كانت عليه في مخيم الهول تقول: "هنا أخذت أولادي إلى (مدينة الملاهي)، ذهبنا للحديقة والجسر على نهر الفرات. صارت لديهم نظرة أوسع للحياة". صعقتني الجملة الأخيرة، وأحالتني فوراً إلى قصة الراحل ميشيل كيلو، حين حكى للطفل الذي ولد في السجن، عن العصفور والشجرة، ليستفسر الطفل عما يعنيه بكلمتي العصفور والشجرة! فما معنى أن تجد المرأة أن ذهاب أطفالها لتلك الأماكن المتواضعة، إنجازاً سيوسّع مداركهم! وإن كانت زيارة تلك الأماكن تعطي نظرة أوسع للحياة، فما مدى ضيق الحياة التي عرفتها المرأة وأولادها؟ عن أية حياة كانت تتحدث؟ هناك ما يخنق أي مستمعٍ لتلك الجملة.

ساقني الوسم إلى تقارير عديدة عن النساء العائدات، إحداهن كانت طفلة بعمر 13 سنة تلعب مع صديقاتها في الشارع، عندما رآها أحد عناصر داعش، فأرغم أهلها على تزويجها له! قُتل الزوج بعد سنة، فنزحت مع أهله إلى مدينة الحسكة، واحتُجزوا جميعاً في مخيم الهول. اليوم تعمل الأرملة الصغيرة بالخياطة بعد خضوعها لدورة تدريبية. للوهلة الأولى، بدت لي جميع القصص، وكأنها تخصّ جغرافيا أخرى لا أعرفها، وهذا تقصير مني بالتأكيد، فكيف يمكن ألا أعرف شيئاً عن فئة من السوريين عاشوا تلك المحنة، ويستحقون فرصة أخرى؟ لكني هدأتُ بعد أن أخذني تفكيري إلى أمر أبعد.

لأسباب تخصهنّ، لم تتحدث ولا واحدة من النساء عن ظروف حياتها في مخيم الهول، وعما عانته هناك، وأنا أتفهم خشيتهن الأمنية من الخوض في هكذا تفاصيل. لكن بإصغاء أكثر تدقيقاً، يمكن الاستشفاف أنهن عائدات من جحيمٍ مكتمل العناصر. جميعهن كنّ متمسكات بالتعبير الجديد "عائدات للحياة"، وكأنهن اعتبرنه جائزتهنّ التي انتظرنها طويلاً. لم ترغب أي منهنَّ باستخدام تعبير عائدات من مخيم الهول. محاولةٌ بدت لبعضهنَّ ناجحة، لنسيان تلك الفترة من الحياة، وربما حذفها نهائياً من الذاكرة، بهدف البدء من جديد.

إننا، دون استثناء، عائدون من الهَول، وهناك حاجة لدمجنا بالحياة الطبيعية للبشر، ممن لم يعرفوا ويجرّبوا ما اختبره السوريون خلال العقود الأخيرة. أجل، جميعنا نحتاج الشعورَ بأننا عائدون للحياة.

الصور التي شاهدتها مصادفةً أخذتني أبعد. وأوصلتني إلى هَوْلنا السوري العام، لأشعر أننا جميعاً عائدون من هَولٍ ما، أو أننا مازلنا فيه، وهذا واقع صارخ نتلمّسه جميعاً، أقلّهُ في أرواحنا. بدا لي أن نساء مخيم الهول يحاولن التعافي من تجاربهن القاسية، ليعدن سوريات مثلنا، نحن الذين نعيش في هذا الهول السوري المدمّر والمستمر. الكارثة أنه حتى من غادر سوريا يحتاج إلى سنوات للتعافي، إن قُدِّر له، من الهّوْل الذي عرفناه.

الرجل الذي أنزل بيديه ابنه الشاب إلى القبر في بدايات الثورة، فقط لأنه هتف للحرية أليس عائداً من الهول؟ من شاهد أشلاء أطفاله الذين فتت أجسادهم البراميل المتفجرة؟ من ضمت إلى صدرها أطفالها بعد أن خنقهم غاز السارين أليست عائدة من الهَول؟ الطفل الذي شاهد صورة جسد أبيه في مجموعة صور قيصر، عارياً ومهترئاً من التعذيب، ألن يبقى مقيماً أبدياً في الهول؟ وأخيراً الغضب الذي تكتنزه أرواحنا رغماً عنّا، أليس هَولاً مستمراً؟

إن كان هناك من قدّم لأولئك النساء ما جعلهنّ يملكن من جديد مفاتيح أولى لحياةٍ مختلفة، فهنَّ محظوظات حقاً. لكن المؤلم في الصورة العامة أنّهنّ بتلك الانتقالة للأمام، وهي انتقالة تستحق المديح، عُدنَ إلى مخيم هَوْل السوريين جميعاً. إننا، دون استثناء، عائدون من الهَول، وهناك حاجة لدمجنا بالحياة الطبيعية للبشر، ممن لم يعرفوا ويجرّبوا ما اختبره السوريون خلال العقود الأخيرة. أجل، جميعنا نحتاج الشعورَ بأننا عائدون للحياة.