مدخل عن الثقافة والمثقف
ما إن أهيلت كومة التراب فوق جثمان المفكِّر السوري الدكتور طيب تيزيني عاشق سوريا وشعبها والمعدود، بحسب مؤسسة "كونكورديا" الفلسفية الألمانية الفرنسية، وأحداً من أهم كبار المفكرين والفلاسفة العرب في العصر الحديث، حتى أخذت الأقلام الكثيرة بتفريغ مخزون أصحابها المتباينة حول سيرة الرجل، وشخصه، ومواقفه.. فمنها ما جاء محتقناً بالأحقاد والكراهية، وأغلبها، لاشك، ما هو مترع بفيض ما أبدعه الرجل من فكر سياسي لم يقف عند حدود التنظير أو عند مبدأ "قل كلمتك وامش" بل تجسَّد بمواقف وطنية وإنسانية انحازت للمجتمع والأمة لتمثِّلَ ما يجب أن يكون عليه المثقف.. فالمثقف هو ذلك المبدع في واحد من حقول الفكر أو الأدب أو الفن ممن يتمتعون بوعي خاص، يستطيعون من خلاله سبر حقيقة واقعهم، ويمتلكون رأياً حراً يستند إلى تلك الحقيقة المكتشَفة، فيؤثِّرون من خلاله في ذلك الواقع وقضاياه الكبرى والمفصلية، إن أُخذ به طبعاً، فهذا النوع من المثقفين غالباً ما تضيق به عين الحاكم المستبد، فيتبعه بعيونه لتلتقط أية نأمة يمكنها أن تهدد أمن كرسيه في أي منحى من مناحي البلاد، وشؤونها كافة..
هجوم شعبوي حاقد
من هذه الزاوية بالذات جاء الهجوم الشعبوي الصارخ على الرجل بعد وفاته.. وإذا كان بعض الإسلاميين السياسيين قد هاجم فيه علمانيته. و(العلمانية كفر وإلحاد في نظر هؤلاء الذين لا يميزون بين نظام إدارة الدولة والإيديولوجيا)، فإن موالاة النظام وشبيحته كانت أشدّ قسوة في هجومها إذ ألصقت به تهماً وصفات أبعد ما تكون عنه.. فقد اتهمته بالتعصب الديني وبالطائفية، وبالأخونة والوهابية إلى ما هنالك من عبارات غبية يتقنها من تربوا على الشعارات يرددونها على نحو استاتيكي (جامد، ساكن) وأعينهم على أموال الوطن والشعب.. ولعلَّ بعض طلابه لم يحترم لحظة الوفاة وقدسية الفراق، فغلبت عليه الأنا المفرطة.
كتبت “سناء إبراهيم” الأربعاء 6 أيلول 2017 في ملف عن الراحل نشرته جريدة الأخبار اللبنانية تدين أولئك الكتبة تحت عنوان:
"سوريا التي لا ترحم.. ما أرحم الترابَ يا طيب..!"
"هزمته جامعة دمشق عام 1997، مستعينة بأنصار البوطي ومؤيديه، (تقصد: المناظرة التي عزمت الجامعة على قيامها، فتوترت معها الأجواء قبل ساعات، إذ قيل إن بعض السلفيين صلوا صلاة الشهيد، وبالفعل فقد تفوَّه بعضهم بكلمات نابية لدى دخول أساتذة كلية الفلسفة قاعة المحاضرات، ما دعا رئاسة مجلس الوزراء إلى إلغائها) وبالأمس هزمه السوريون للمرة الأخيرة. كتبوا يرشقونه بقلوب
توفي طيب تيزيني ابن المشاريع والأحلام الكبرى، كان إنساناً قبل أن يكون مفكّراً، بكى سوريا قبل أن يبكي نفسه وحاله وأقاربه الذين فقدهم خلال الحرب..!
مُقفلة، وعقول ترمي بالحجارة من اختارته خرج المفكر والفيلسوف الطيب تيزيني بوفاته عن المقاسات التي أعدّها له متطرّفو الوطن ومدّعو الوطنية، فأنت كاره للدولة لأنَّك لم تكن بدلة على مقاس شخص ما في السلطة، وأنت عميل لأنك لم تكن رجلاً لذراع طويلة تستنزف الدم والخبز والدخل القومي.. وأنت خائن لأنك تكتب في جريدة "كذا.." وتستمتع بالدينارات الكويتية، بدل أن تقول شكراً لاستخدامك خط "سيرتيل" وتتابع الكاتبة:
"توفي طيب تيزيني ابن المشاريع والأحلام الكبرى، كان إنساناً قبل أن يكون مفكّراً، بكى سوريا قبل أن يبكي نفسه وحاله وأقاربه الذين فقدهم خلال الحرب..!" وأضافت من عمق الجرح تقول:
"هي سوريا الصريحة، الأساتذة فيها ليسوا أساتذة، والمناضلون ليسوا مناضلين، الحكمة لا تصل، والدرس لا يُقرأ، تكاليف الحرب أسطورية والنتائج باهتة، والحزن واجب ليس مقدّساً".
وختمت مخاطبة روح الطيب: "الطيب تيزيني.. سوريا الآن ساحة مبتذلة للعالم.."
حقائق في وجه أذيال النظام ولصوصه
ومرة ثانية أقول إذا كان مفهوماً هجوم الإسلام السياسي على طيب فإن هجوم موالاة نظام الأسد كان أوضح وأقسى، فهو أول من فضح ذلك النظام في عمقه، ووجد الوسيلة المناسبة التي لا تجرح غباء المستبد لإيصال رأيه سواء حول سطوة الدولة الأمنية أم عن حال الفساد الذي تفاقم في بلده، فأعاق نموها وتطورها.. ولم يكتف بذلك بل حلل بنية النظام السائد وجوهرها المعادي للشعب، ففي حوار شامل طويل أجرته معه جريدة الحياة في 17 من نيسان 2006 تعرَّض طيِّب تيزيني من موقع المثقف الواعي الحريص على نموِّ وطنه ومجتمعه، إلى تحليل ظاهرة الإيديولوجيا القومية التي تحولت من جملة مفاهيم لاستعادة بناء الأمة إلى شبه فاشية لم تلغ الحياة السياسية فحسب بل ألغت المجتمع بالكامل، وكأن المجتمع هو الخصم الحقيقي لتلك الدولة القومية المنهزمة بشعاراتها وأمام عدوها الرئيس إسرائيل..! ففي رده على سؤال محاوره، "إبراهيم العريس" عما يعنيه بعبارة «شبه فاشي؟» التي وصف بها النظام السوري قال:
هذا المشروع الذي كان يقترب من الفاشية لم يصبح فاشياً منذ البداية. صار فاشياً لاحقاً… حين نشأ على أنقاضه مشروع الدولة الأمنية. الآن، وفي معظم أرجاء العالم العربي نعيش في ظل دول أمنية، ولا أقول حزبية. هذا المشروع «الأمني» بدأ مع مشروع الوحدة بين مصر وسوريا. فالشرط الأول للانضمام إلى الوحدة في ذلك الحين كان إلغاء الأحزاب، بالتالي إلغاء الحياة السياسية. ومن هنا ألغي العنصر الذي كان عليه، أن يحمي مشروع الوحدة. في ذلك الوقت، إذن راحت إرهاصات الدولة الأمنية تعلن عن نفسها ووجودها. واليوم ها نحن أولاً، نعيش في قلب المرحلة الأمنية بامتياز، بخاصة مع استشراء الهيمنة الأميركية التي تجد نفسها
الدولة الأمنية ابتلعت في طريق صعودها ثلاث مرجعيات: المرجعية السياسية والمرجعية الثقافية ثم المجتمع ذاته
أمام تفتتٍ هي قادرة على أن تفتته أكثر وأكثر. فما نشأ لم يكن دولة بوليسية بل دولة أمنية. الدولة البوليسية تقمع وتلاحق، أما الدولة الأمنية فتستوعب وتفسد المجتمع بأسره. الدولة الأمنية في معظم أرجاء عالمنا العربي صادرت السياسة والديموقراطية، وابتلعت كل القوى التي كانت تتطلع إلى بناء الأوطان.. ويتابع الطيب:
قلت وكتبت إن الدولة الأمنية ابتلعت في طريق صعودها ثلاث مرجعيات: المرجعية السياسية والمرجعية الثقافية ثم المجتمع ذاته. وهنا لا أتحدث عما يسمى الآن المجتمع المدني، بل عن المجتمع عموماً. إذ إن الدولة الأمنية أدركت منذ البداية أن تبتلع هذا المجتمع بأن تنهي احتمالات البدائل نفسها.. بأن تفسد المجتمع كله. ولنتذكر كيف أنّ تدفق السيولة النقدية خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين دجّن كثيراً من الناس، مثقفين وغير مثقفين..!
مثقف عضوي
وعن نزول الشعب إلى الشارع بداية العام 2011 ومشاركته فيه، رغم أنّهَ رأى الخروج ناقصاً، وسابقاً لوقته، وقد اختُرِقَ من هنا وهناك. وأنَّ الطبقة الوسطى كانت تتجه نحو اكتشاف المداخل الشرعية إلى ذلك. أي كان الخروج في طور النضوج..! رغم ذلك تحدث عن سلمية المتظاهرين ورغبتهم بالإصلاح فقال:
"أتذكر أن هناك فئات خرجت لمجرد الخروج، وعُدَّ ذلك شيئاً جيداً، لا بأس، فهذا الذي خرج في اللحظة غير المناسبة، قد يكتشف نفسه، ويكتشف مواقعه. سارت التظاهرات سلمية، بدأ بعدها الصراع المسلح.. ومؤسف أن يقال بعد ذلك:
إن أولئك السوريين خرجوا مسلحين، وأنا شاهد. كانت تظاهرات تسعى إلى إعادة البناء من داخل البناء نفسه، ومن خلال الجميع إن أمكن.. كان المحتجون قد مثلوا فكرة يسوعية هائلة: (اغفر لعدوك)، وخرجوا باسم مشاريع طُرِحت سابقاً ولم يُستجب لها. أتت المفاجأة بظهور السلاح، وظلت سوريا تفترض منذ سبع سنوات أن السلاح يمكن أن يزول في لحظة ما ولم يزل، وظلت الاحتمالات موجودة بوجود من يحمل السلاح.."
أما رأيه في لجنة الحوار التشاوري في تموز عام 2011 كان واضحاً وجريئاً ولعلَّه شكَّل مع الآراء الأخرى التي قيلت حالة رعب لمنتفعي النظام فقلبوا الطاولة، وكان خطابه مثل كيًّ على جرح إذ قال بوضوح تام:
"إنّ هذا اللقاء يعادل انتصار سوريا، فليكن مدخلاً للخلاص السوري الذي يبدأ بتفكيك الدولة الأمنية التي تعني أن يُفسد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع مُفسَدين ومطالبين بالإفساد تحت الطلب". ورغم ذلك لم ييأس فشكل «مجلس الحكماء» اعتقاداً منه أن سوريا بحاجة ماسة إلى الحكمة، وكانت بدايات طيبة. لكن الذي تبيَّن له هو: صعوبة أن يحدث شيء حقيقي في سوريا.. فترك الأمر كله ليكتشف، مرة أخرى، انغلاق الأبواب في وجه الإصلاح والخروج من المأزق.
خاتمة
يضعنا حال الطيب، في النهاية، أمام إشكالية "المثقف والسلطة" وهو الذي يهتدي بالمنهج الماركسي ويدرك جيداً طبيعة الاستبداد ومصالحه ولعله على دراية تامة بمقولة ماركس عن الناس وصراعهم حول مصالحهم وهو أيضاً الباحث في التراث المدرك لعلاقة المثقف بالسلطة على مدى تاريخنا العربي الإسلامي إذ كانت الغلبة فيها دائماً للحاكم الذي يهتدي بسماحة الدين الإسلامي.. فكيف بنا اليوم والعالم يعيش عصر الديمقراطية ونحن لا نزال أمام سلطة استبدادية في وطن ينتمي في تركيبة بنائه الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي السياسي، إلى نظم شمولية تمثل تشكيلات اقتصادية رعوية/إقطاعية. يدير شؤونها حاكم يملك عقلية مختار بينها وبين طيب تيزني سنين ضوئية.. فكيف لم ينتبه الطيب تيزيني إلى هذا الجانب؟! أتراه الإيمان بالكلمة الطيبة المسالمة أم هي النوايا الحسنة تمتح من روح طهور..!