إننا نعيش في عالم يحترق، حيث يموت كل شيء على الدوام، بينما يواصل العيش بصورته البراقة أيضاً. ابتداء من عواطفنا وصولاً إلى أفكارنا ومشاعرنا، وابتداءً من أجسادنا وصولاً إلى مملكة النبات والحيوان، كل شيء يتفسخ منذ اللحظة التي يتكوّن فيها. تلك هي فكرة العالم المحترق كما تراها بعض العقائد البوذية، كما تمثل هذه الفكرة أول انطباع يتشكل لدى المرء عند مشاهدته للجسد نصف المتعفن وهو يذوب في هندسة متداعية، وذلك في منحوتات الفنانة السورية الأميركية ديانا الحديد.
يجمع عمل الفنانة ديانا بين شيء قديم للغاية وشيء حديث جداً، فيكشف بشكل سلس عن اتحاد ضمني، ولهذا عندما ننظر إلى مجموعة منحوتات سمّتها "أوامر نولي" التي تمثل مجموعة ملحمية مصنوعة من الفولاذ والجص والألياف الزجاجية والخشب ومادة رغوية والجبس ورقائق الألمنيوم والصباغ، فأول شيء يخطر بالبال إلى جانب فكرة العالم المحترق أبيات من أغنية: طريق طويل للخراب التي تغنيها فرقة الروك فوو فايترز، والتي جاء فيها:
طريق طويل للخراب هناك في عينيك
تحت أنوار الشارع الباردة
لا غد، لا طريق مسدود يلوح في الأفق
إن الحياة طريق طويل للخراب بكل تأكيد، إلا أن هذه ليست المرة الأولى التي تستحضر فيها منحوتات ديانا الحديد تلك الصور، لا سيما عندما نعرف أنها ترعرعت في الولايات المتحدة، لكنها ولدت في حلب عام 1981، تلك المدينة التي كان لابد من الهروب منها، حيث تتراكم الحضارات فوق بعضها بعضا، لتستهزئ بالحدود الوهمية التي يحاول من خلالها المؤرخون تحديد العصور، حتى بعدما دُمر كل ذلك بفعل القنابل والقصف والرصاص، وهنا تقول ديانا: "إن نظرت إلى التاريخ عن كثب، ستكتشف بأن الحدود واضحة ومميزة، ولكن عندما ترجع إلى الوراء، تدرك أن ذلك وجد في حلب، إذ هنالك كل أنواع الآثار الهيلينستية المنتشرة في كل مكان إلى جانب حضارات مختلفة تركت بصماتها هناك. لذا من الممتع والصعب دمج كل ذلك بشكل واع ضمن عملك".
استرجاع التاريخ
في إحدى المرات ذكرت ديانا أنه من الممتع أن تبذل حضارة ما جهداً كبيراً لاستعادة التاريخ، إذ كم من الجهد بذلنا لاستعادة اللوحات الجصية الأثرية من منطقة معينة في إسطنبول مثلاً، وتعلق على ذلك قائلة: "ثم في لحظة، نمسح شعباً بأكمله في سوريا، وهذا النوع من الأمور يخلف أصداء بالفعل، إذ أشعر بأن وهم استعادة الماضي واسترجاعه متأصلة بعمق فينا، كما أن هذا الوهم غير منطقي ومستحيل. وحتى الآن لدينا فقط ما بوسعنا أن نتوجه إليه، ما لم نفكر بأمر السفر إلى الفضاء. هنالك شيء مفقود على الدوام، إلا أننا يبدو وكأننا نتقبل تلك الفكرة إلى حد ما".
وهكذا، في توزيع الأعمال بشكل شحيح حسب أسلوب بولوك، لا يمكن لمنحوتات ديانا المقلوبة المشغولة على لوحات قماشية ذائبة الأطراف، إلا أن تعبر عن واقع يفيض بمراحل تاريخية. إذ عبر الاستعانة بالعديد من المواد اللاعضوية، تعيد ديانا خلق عملية متصلة من التفكك والتبرعم. ولهذا تعتبر كلمة عضوي مناسبة لوصف العملية التي تقوم بها ديانا، بما أنها تعمل على منحوتاتها دونما تفكير، ودون أن يثقل كاهلها عبء الأدوات المفاهيمية المعقدة التي أصبحت رائجة للغاية في عالم الفن المعاصر. وهذا ما يجعلها شبيهة بآلهة الخصب والقدر الرومانية باركا، لكونها تخدم فكرة القدر، وذلك عندما تقوم بعملية التصنيع والإنتاج في الوقت الذي تحقق فيه نجاحاً كبيراً على المستوى الشخصي، وكل ذلك يندرج ضمن عالم الفن المعاصر بشكل متأصل ومناسب.
النشأة والإنجاز
يذكر أن ديانا هاجرت من سوريا إلى الولايات المتحدة عندما كانت في الخامسة من عمرها، ثم تخرجت من جامعة فيرجينيا كومونولث في عام 2005، ومنذ ذلك الحين أقامت العديد من المعارض الفنية إما بمفردها أو برفقة فنانين آخرين في متاحف ومعارض تجارية. يصفها كثيرون بأنها من أهم فناني جيلها، ولاشك في أنها قدمت نفسها كشخصية قادرة على أن تستمد أفكارها من تاريخ الفنون. إذ ابتداء من النحات بيرنيني مروراً بجداريات بومبيان، وصولاً إلى شخصية غراديفا التاريخية القديمة، قامت ديانا بإدخال النقش الغائر الروماني القديم والذي تحول إلى رمز لأدبيات التحليل النفسي في القرن التاسع عشر، في أعمالها وذلك عبر الاستعانة بمجموعة واسعة من الشخصيات المرجعية التي استمدتها بكل تفاصيلها من بيئتها الشرق أوسطية والغربية على حد سواء. وفي بعض أعمالها المعمارية، بوسعنا أن نكتشف أيضاً عناصر الفن القوطي وقد تمت إعادة تأويلها وترجمتها عبر بوابة الخيال، إذ هنالك إحساس عميق بالحزن يشبه ما عهدناه في رواية ملك الخواتم وذلك عند مواجهة فكرة اتساع الحياة الأبدية لدى الجن، حيث يعبر ذلك عن آثار وخرائب لشيء بقي يقاوم لعصور من الزمان.
الأسلوب
عبر الاستعانة بطبقات من الألوان بعضها يسيل والآخر يجف بوصفها قطرات من الأصباغ، تجعل ديانا من مصدرها الأصلي شيئاً لا يمكن التعرف عليه في معظم الأحيان، حيث تقوم بتقسيم المادة وبعدها تغطيها تحت طبقات من الجص. وهي تستعين في معظم الأحيان بمواد أولية، تشمل صور الأشياء التي صوّرتها بنفسها، والأماكن التي زارتها، أو مناظر داخلية من الاستديو الخاص بها، حيث تقول: "في النهاية، يختفي المصدر فنفقد التفاصيل الأصلية برمتها، ولهذا أعشق مصادر لوحاتي وأستهين بها في ذات الوقت، وذلك لأني آخذ منها ما أحتاجه، ثم أفعل كل ما بوسعي حتى أدمرها".
معرض مع فنان غائب
ومن بين الشخصيات التي تستلهم منها ديانا شخصية النحات الإيطالي ميداردو روسو (1858-1928)، إذ بالرغم من أن أعماله وأعمالها أنتجت في زمانين مختلفين، إلا أنها تعرض جميعاً جنباً إلى جنب في معرض ماريان بويسكي بنيويورك تحت عنوان: "ديانا الحديد: حول ماداردو روسو". إذ في ذلك المعرض، يبدو كلا النحاتين وكأنهما قد انخرطا في حوار يتساءلان فيه حول الممارسة التقليدية ويبحثان في مفاهيم ذات بعدين ضمن فضاء ثلاثي الأبعاد، وذلك باستخدام الشمع والبرونز، بالإضافة إلى تلاعبهما بالمواد. إذ لاتشبه وجوه روسو الباسمة والباكية أي شيء على الإطلاق، وفي الوقت ذاته تشمل كل الأمور المهمة. إذ تبدو منحوتاته التي تعود لأكثر من قرن من الزمان بلا أي شكل محدد أو تضاريس، وكأنها عبارة عن قطع مأخوذة من مواد مختلفة، إذ يمكن لمنحوتاته أن تكون مجرد أحجار وضعت فوق شاطئ يمكن لمن يمر به بشكل عابر أن يكتشف أشكالاً وقسمات، كما يفعل الناس عندما يراقبون الغيوم.
تعلق ديانا على معرضها بالقول: "لدي ميل للتشكيل بصورة عفوية، إذ إن المنحوتات التي أشكلها فوضوية وفجة عند الأطراف، فأنا أحس بأن ذلك يعود لطبيعة شخصيتي التي تحب أن تصنع أعمالاً تبدو مدمرة، لدرجة تحس معها أنها لا تنبع من شخصيتي أو من العملية التي أقوم بها بقدر ما تنبع من إطار مفاهيمي معين، أو أنها بمثابة تعليق حول علم نفس الدمار، وهذا شيء رائع بحد ذاته".
وبالحديث عن العملية التي تنتهجها هذه الفنانة، تخبرنا بأن الأمر بالنسبة لها يتلخص في إيجاد زوايا شيء معين بعناية وببطء، ثم رسم شكله وتضاريسه، وتعلق على هذا بقولها: "للمواد منطق داخلي مختلف أو قصة مختلفة، وأنا أحب الطيش الذي تحمله الصدفة، إذ من الرائع البدء بشيء من الفوضى ثم تهذيب المنحوتة لتتحول إلى شيء أهم. فالجميع ينشد الانتظام في ظل الفوضى التي أحاول أن أخلق توازناً كبيراً معها في أعمالي".
وهكذا ندخل إلى بعد حاضر معلق في عالم ديانا الحديد، وهذا البعد مرئي، حيث لا يمكننا منع واقعنا من الاحتراق والتساقط من حولنا، إذ لا نملك هنا إلا أن نتقبل الأمور كما هي، أي إن كل شيء يذوب أمام أعيننا، وبأننا في طريقنا نحو الخراب في نهاية المطاف، دون غد أو طريق مسدود يلوح في الأفق، كما تقول فرقة فو فايترز بكل بساطة.
المصدر: ميدل إيست مونيتور