عاش يوسف (اسم مستعار)، خلال الأسابيع القليلة الماضية، حياةً يملؤها الخوف والتوتر مع اقتراب انتهاء مهلة التأجيل للخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف قوات نظام الأسد، التي منحها القرار رقم /5343/ لأبناء محافظة درعا، قبل عام.
التوتر والتخوف من المآل القادم يسيطر على المشهد في درعا، آلاف الشبّان أمام خيارين أحلاهما مرُّ: إمّا الالتحاق بصفوف قوات النظام وتدمير ما لا يقل عن سبع سنوات من عمرهم، أو الهروب إلى المجهول بكلفةٍ تكاد تكون خيالية مقارنةً بالدخل المتوفر.
فبعد انتهاء مهلة التأجيل، أصبحت خيارات الشباب محدودة، وأرغموا على العيش متخفّين داخل مناطق سيطرة المعارضة سابقاً، بعيداً عن الحواجز الأمنية التي بدأت بالانتشار والتدقيق قبيل انتهاء مدة التأجيل، وشهدت أحياء درعا انتشاراً لعناصر ميليشيا "الكسم" الذي ينتمي إلى منطقة درعا البلد، وبالتالي يستطيع التعرّف إلى الفارين من الخدمة العسكرية وملاحقتهم والقبض عليهم.
"تجارة أرواح رابحة"
استغل عناصر النظام قرار التأجيل رقم /5343/ منذ لحظة إصداره، في نيسان 2021، فقد اتجه آلاف الشبّان إلى شعبة التجنيد في درعا، وتراوحت قيمة الرشاوى من 15 إلى 50 ألف ليرة سورية مقابل الدخول إليها فقط، أو مقابل الدخول إلى المصرف العقاري لتسديد قيمة إذن السفر. هناك أشرف عناصر من فرع الأمن الجنائي على تمرير المراجعين إلى المصرف من بابه الخلفي حسب الشاهد.
تختلف قيمة الرشوة بحسب الرتبة، فرئيس شعبة تجنيد درعا، على سبيل المثال، المقدّم وردان البكري، يتقاضى علناً مبلغ 50 ألف ليرة سورية مقابل الدفتر الواحد، وغالباً ما كانت الخطوة التالية للتأجيل هي الاتجاه إلى فرع الهجرة والجوازات، وهناك استغل عناصره بدورهم القرار أيضاً.
يقول "يوسف": بعد عقد اتفاق تجديد جواز سفري مقابل مبلغ مليون ونصف المليون ليرة، في 20 نيسان الماضي، رفع الضابط المشرف المبلغ المتفق عليه مليون ليرة أُخرى، ليصبح بذلك سعر تجديد الجواز مليونين ونصف المليون، مستغلاً ضيق الوقت والحاجة الملحة لتجديد الجواز"، مشيراً إلى أن هذه التجارة يُشرف عليها أربعة ضباط على اختلاف رتبهم، ولكل منهم زبائنه.
وفي المقلب الآخر أيضاً، استفاد عناصر النظام ممن رفض السفر أو ممن لا يملك مصروف السفر، ففصلت لهم عروض مناسبة تلبّي احتياجاتهم، إذ عرض عميد في المخابرات الجوية على "يزن" (اسم مستعار) تأمين خدمته العسكرية "خدمات ثابتة" مقابل مبلغ خمسة آلاف دولار (3 منها للعميد وأطباء عسكريين يبيعون تقارير طبية مزوّرة، و2 بدل داخلي).
أما "محمد زين" فقد قُدّم له عرض لإعفائه من الخدمة الإلزامية، من خلال تعريض "محمد" لعملية جراحية في أحد مشافي دمشق، يفتح خلالها الطبيب صدره، ويكتب تقريراً طبياً مزوّراً، مقابل أربعة آلاف دولار.
طرق معبّدة بالموت
طرق النجاة الأُخرى من درعا باهظة الكلفة، تتراوح بين 2500 دولار للشخص الواحد نحو لبنان برعاية عناصر ميليشيا "حزب الله" المنتشرين في حمص.
"بعد انتهاء معركة درعا، عام 2018، وازدياد حالات الخطف والاغتيال واختفاء المطلوبين في المنطقة من قبل الفروع الأمنية، أدركت أنه ما من عهد لهذا النظام ولا خيار سوى الهرب"، يقول "هاني" (اسم مستعار) وهو أحد إعلاميي المنطقة.
وتابع: "اخترت الهروب إلى لبنان برغم خطورة هذه الرحلة، فأنت لا تعلم مع من تتعامل فالمهرب يستخدم رقماً أميركياً نتواصل به معه من خلال برنامج واتساب، ويبدأ الانطلاق من نقطة يحدّدها المهرب في المساء... مشينا نحو الساعة في مزارع وبساتين مجتازين النهر مرتين من خلال سلّم موضوع فوقه، وكانت أصوات الصراخ تتعالى عند سقوط أحد الأطفال في النهر".
وأضاف "عند وصولنا للأراضي اللبنانية، استمر سيرنا نحو الخمس ساعات بين الجبال، وكل ذلك تحت التهديد والشتم من قبل المهربين بسبب خوفهم من لفت نظر حاجز شدرة المعروف بصرامته، كانت بحق رحلة ممزوجة بالذل والقهر".
أما السفر إلى الشمال السوري فقد بلغ سعر الرحلة 3500 دولار، بحسب "عمر" الذي انتقل من خلال خط عسكري يصل إلى حلب، مضيفاً أن "الرحلة إلى الشمال السوري كانت أشبه بالانتحار، إمّا الاعتقال أو القتل، أو النجاة بضربة حظ، ولا مجال لأي ضمانات، وصادفني الحظ بأنني نجوت. كما تعرضت للاعتداء بالضرب عدة مرات من قبل عناصر حرس الحدود التركي خلال محاولات العبور المتكررة إلى تركيا، والتي كلفتني مبلغ 1700 دولار".
اقرأ أيضاً.. طريق مليء بالمخاطر.. تهريب البشر من مناطق النظام إلى عفرين
ويقول "عمر": إنّ "الأمور في تركيا لم تكن أقل بشاعة، حيث تعرضت عدة مرات للنصب والاحتيال من قبل سماسرة في محاولتي الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة (كيملك) لتسهيل تنقلي بحرية وتفادي خطر الترحيل إلى سوريا، وأعمل الآن في مشغل خياطة بدوام ليلي خوفاً من عناصر الشرطة، وبراتب بخس وساعات عمل تصل إلى 16 ساعة".
أما طرق السفر النظامية ليست خياراً أفضل، روى "آدم" (30 عاماً) عن رحلته من درعا إلى كردستان العراق التي كلفته 650 دولارا، ثم كان عليه السفر براً إلى بغداد في رحلة استمرت 12 ساعة.
يوضّح قائلاً: "انطلقنا ليلاً في باص يضم 20 شابا من درعا والسويداء، خوفاً من الحواجز الأمنية، ووصلنا حدود بغداد بعد ثمان ساعات من التوتر والقلق والتأهب لأي طارئ أو هجوم مسلّح في طرق نائية يسلكها المهرب".
ويضيف: "لم تختلف ظروف الحياة كثيراً عن سوريا، فالسوري يُعامل بطريقة مُذلة في سوق العمل، استطعت إيجاد فرصة عمل في مطعم يؤمن السكن القذر الذي يشبه مهجع الجيش وساعات عمل طويلة مقابل 500 دولار لا تكاد تكفي مصاريف عائلتي في سوريا، السوري محروم من الحياة سواء في بلده أو خارجها، فهل حقاً نجونا من سوريا؟".