تحدثنا، في الجزء الأول من هذه المقالة، عن بعض أفانين الرقابة التي تمارسها سلطة الأسد على مختلف أعمال الشعب، ابتداء من ختان الأولاد، وسكب مفاتيح المنازل والدكاكين، وصولاً إلى مراقبة الأفلام والمسلسلات والكتب الأدبية، والكتب السياسية والفكرية.
الرقابة الورقية
من أطرف ما يحصل، في هذا السياق، أن الكاتب الذي يُفترض به أن يرفض الرقابة، ويستهزئ بها لأنها تقيد إبداعه، وتجعله يشطب معظم الأفكار المهمة التي تتفتق عنها مخيلته، يتمنى، في بعض الحالات، أن يخضع لرقابة سريعة، وصارمة، ففي خاتم الرقابة تكمن براءتُه.
سأحكي لكم واقعة من تجربتي الشخصية تؤكد هذا الأمر:
دعيتُ، ذات يوم من سنة 2008، لحضور مهرجان أدبي في مركز ثقافي تابع لمحافظة حمص، وعندما جاء دوري قرأت ثلاث قصص جديدة، منها واحدة عنوانها "فـ عيب". القصة تتحدث عن رجل متحضر إلى درجة أن أقسى عبارة يمكن أن يزجر بها ابنه هي كلمة (عيب يا ابني).. تجري أحداث قصتي المذكورة خلال مطاردة دورية مخابراتية لمجموعة من مقاتلي الإخوان المسلمين، (أو الطليعة المقاتلة) في إحدى ليالي الثمانينات. كتب أحد المخبرين تقريراً بحق هذه القصة، وأُرسل التقرير، حسب العائدية، من فرع الأمن السياسي بحمص إلى فرع الأمن السياسي بإدلب. استدعيتُ إلى "السياسية"، ولم أكن أعرف، بالطبع، سبب الاستدعاء، إلى أن وقفتُ في حضرة ضابط برتبة نقيب كان على ما يبدو مختصاً بالتحقيق مع المثقفين، فقد استدعاني قبل ذلك أكثر من مرة. ذهلتُ عندما قال لي إن هذه القصة تمجّد الإخوان المسلمين!
كان لذهولي أكثر من سبب، الأول؛ أنني أبعد الناس عن خط الإخوان المسلمين وفكرهم وتنظيمهم. الثاني؛ أن موضوع القصة لا علاقة له بتقييم الإخوان، لذلك أنا لا أذمهم ولا أمجدهم. الثالث؛ أنه لا يوجد سوري عنده ذرة عقل يجرؤ على تمجيد الإخوان في تلك الأثناء، فحكم ذلك، بحسب القانون 49، إعدام. سألته:
- من أين توصلت إلى أنني أمجد الإخوان المسلمين؟
كان التقرير الأمني موجوداً أمامه، فراح يقرأ منه: ويقول الكاتب، حرفياً، إن الأجهزة الأمنية كانت، آنذاك، تطارد مقاتلي الإخوان.
- فأين التمجيد؟
قال: تسميهم (مقاتلي) الإخوان، ألا تعلم أنهم عصابة؟
لا توجد، الآن، ضرورة لأن أسرد وقائع تلك المشكلة كلها، يكفي أن أقول إن فطنتي أسعفتني، فأخبرت النقيب بأن هذه القصة موجودة ضمن مجموعتي القصصية "حب بعد الخمسين" التي وافقت دائرةُ الرقابة في وزارة الإعلام على طباعتها. ووعدته بأن أحضر له الموافقة في أقرب سفرة لي إلى دمشق.
قلما تأتي إلى مديرية الرقابة في التلفزيون أعمال درامية خارقة. السبب أن شركات القطاع الخاص التي أحدثت قفزة كبرى في الإنتاج الدرامي اعتباراً من سنة 1993 استأثرت بالأعمال المهمة.
(الطريف في الموضوع أنني كنت، وقتئذ، قد تقدمت بمخطوط المجموعة المذكورة لمديرية الرقابة، ولم تكن الموافقة قد صدرت، لذا عشت على أعصابي زمناً لا يستهان به، متخوفاً من أن تمنع الرقابة هذه القصة بالذات، ووقتها سوف أدان لأنني: 1- تجرأت على كتابة هذه القصة. 2- ألقيتها في مركز ثقافي أمام جمهور واسع. 3- تقديم معلومة كاذبة لفرع السياسية هي أن الرقابة وافقت على طباعتها. والأغرب أن الرقابة لم ترفضها).
الرقابة التلفزيونية:
منطلق حديثنا هنا، هو الخبر الذي نشره موقع تلفزيون سوريا عن قرار صدر مؤخراً عن وزارة الإعلام السورية بتشكيل لجنة رقابية مشتركة لتقييم الأعمال التلفزيونية.
خضتُ، أنا محسوبكم، هذه التجربة، عندما كُلِّفْتُ، من قبل مديرية الإنتاج في التلفزيون السوري، في سنة 2004 على ما أذكر، بقراءة بعض النصوص التلفزيونية لتقييمها، من الناحية الفنية. وبقيت أمارس هذا العمل حتى أوائل سنة 2011، ولأنني من خارج ملاك الهيئة، فقد كانوا يدفعون لي أجور القراءة على القطعة.
وهنا يمكنني أن أسجل بعض الملاحظات:
آ- لم يمر معي، خلال تلك السنوات، أي نص فيه إشكال رقابي. وهذا أمر مؤسف، لأنه يعني أن معظم الكتاب في سوريا (المنكوبة) أصبحوا يمشون بجوار الحائط ويقولون يا رب سترك.
ب- قلما تأتي إلى مديرية الرقابة في التلفزيون أعمال درامية خارقة. السبب أن شركات القطاع الخاص التي أحدثت قفزة كبرى في الإنتاج الدرامي اعتباراً من سنة 1993 استأثرت بالأعمال المهمة. وذلك يعود إلى أسباب عديدة أن القطاع الخاص:
1- القطاع الخاص يدفع أكثر.
2- القطاع ينتج العمل الذي يتبناه بسرعة قياسية لأن عملية الإنتاج لديه لا تحكمها البيروقراطية الإدارية بينما (ينقع) التلفزيون العربي السوري الأعمال التي يتبناها زمناً طويلاً بذرائع بيروقراطية منها توافر الموازنة، وجاهزية الممثلين والفنيين والاستديو والأجهزة.
3- القطاع الخاص يختار أفضل المخرجين والفنيين ونجوم التمثيل ويستطيع جذبهم بالمال، بينما يضطر التلفزيون الحكومي لأن يعطي الأعمال للمخرجين والفنيين المسجلين على ملاكه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفورة الإنتاجية أواسط التسعينات أغرت عدداً كبيراً من هؤلاء بالاستقالة من التلفزيون لأن (سوقهم ماشية) لدى القطاع الخاص.
4- القطاع الخاص بارع بتسويق أعماله المنتجة، لأن دافعه للإنتاج هو الربح، بينما التلفزيون الحكومي لا يهتم للربح، بل لعل الخسارة هي سمته الأساسية.
طرفة رقابية:
أراد التلفزيون الحكومي، ذات مرة، أن يقلد القطاع الخاص في إنتاج مرايا وبقعة ضوء، فأعلن عن حاجته إلى نصوص، وأنا تقدمت ببعض اللوحات، منها واحدة تحكي عن ولد غبي جداً حاولت والدته أن تعلمه مهنة يعيش منها، والولد فشل في كل المهن التي حاول تعلمها. تقترح عليها جارتها أن تطلب مساعدة قريبهم الذي له منصب حكومي رفيع المستوى. اصطحبت ابنها وذهبت إليه، وكان عنده بالمصادفة أحد زملائه الكبار. وعندما عرف الرجلان أن العلة الأساسية للفتى هي الغباء، انفلتا بالضحك، وقال أحدهما للآخر: طالما أنه غبي إلى هذه الدرجة لماذا لا يشتغل بالسياسة؟
ويجري تنفيذ الفكرة بسرعة، إذ يعطى الفتى إعداداً كثيراً من البعث والثورة وتشرين، ومنهاج التثقيف الحزبي، ويُطلب منه أن يَحضر ما أمكنه من المهرجانات الخطابية ويصغي إلى ما يقوله الخطباء..
الفتى يدخل هذا الميدان، يحقق نجاحاً هائلاً، ويترفع في المناصب السياسية حتى يتجاوز الرجلين صاحبي الفكرة اللذين ساعداه ونصحاه..
وما حصل:
أولاً، الرقابة وافقت على اللوحة المكتوبة. وتم إنتاجها بالفعل.
ثانياً، لجنة مشاهدة الأعمال بعد إنجازها رفضتها رفضاً قاطعاً.
وأغرب ما حصل أننا كنا نناقش مع مسؤول تلفزيوني لا يقل غباء عن بطل التمثيلية، قال لي:
- الله يصلحك يا أستاذ خطيب، لو قلت إن هذه القصة تجري في إحدى الدول العربية لمرت بسلاسة!