نشر موقع تلفزيون سوريا، قبل أيام، خبراً عن تشكيل وزارة الإعلام السورية لجنة رقابية تتألف من عدة جهات، (الوزارة - ومؤسسة صناعة السينما - والمنتجون) مهمتها تقييم، أو تقويم الأعمال الدرامية، وستكون قراراتها ملزمة، مع تعليق ذي طبيعة إنشائية خطابية، كالعادة، لوزير الإعلام الجديد بطرس الحلاق، يقول فيه: "إن النهوض بواقع الدراما السورية مسؤولية مشتركة، وواجب وطني".. إلخ.
يمكننا أن نسجل على هذا الخبر مجموعة من الملاحظات:
الملاحظة الأولى: أن حكومات الدول المتقدمة لا يوجد فيها وزارات إعلام أساساً، فهذا شأن تختص به حكومات الدول المتخلفة، وبالأخص التي تتبنى الخطاب الديماغوجي، التعبوي، فتراها تُكثر من الحديث عن الشفافية، والنزاهة، وحرية الرأي، واستقلال القضاء، ويتبجح رئيسُها بقوله أنْ (لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير).. ولكنها تتحدث، في الوقت نفسه، عن الغزو الثقافي، والتلوث البصري والسمعي، والتمسك بالهوية والجذور، وتحذر من ماكينات الدعاية الإمبريالية الصهيونية التي تهدف إلى طمس هويتنا، ووهن صمودنا، وزعزعة ثقة شعبنا بقيادته الحكيمة، والحيلولة دون قيامه بواجبه النضالي القومي والحضاري، وتدعو إلى ضرورة التلاحم بين مختلف قوى الشعب العاملة، لأجل التصدي للمؤامرات.. إلى آخر ما هنالك من هذا العلاك الصدئ.
ثمة مثال يعبر عن هذا التخلف بطريقة جميلة: نشر أحدُ أصدقائنا الأدباء، قبل حوالي ربع قرن من الزمان، قصة قصيرة طريفة، تتحدث عن صرح ثقافي كبير تم الانتهاء من بنائه، وصنفته القيادةُ ضمن قائمة الإنجازات الكبرى للرفيق المناضل حافظ، ولذلك لم يكن من الصواب ترك هذا الحدث يمر مرور الكرام، فأُعْلِنَ عن تدشينه، في زمان ومكان محددين، ضمن احتفال رسمي وجماهيري كبير.. وقد لاحظ راوي القصة أن ترتيب الوزراء الذين حضروا الاحتفال، من حيث الأهمية، كان على النحو الآتي: وزير الإعلام، وزير الداخلية، وزير الدفاع، وزير الخارجية، وزير الثقافة!
رئيس وزراء الدانمارك رفض، أثناء أزمة الرسوم المسيئة للمعتقدات الإسلامية سنة 2006، توجيه اللوم لصحيفة "جيلاندز بوستن" التي أساءت للإسلام، أو الاعتذار للدول الإسلامية بالنيابة عنها
الملاحظة الثانية: أن (الرقابة) هي الأخرى من اختصاص الدول المتخلفة، ففي الدول المتقدمة لا يوجد أخو أخته يجرؤ على أن يطلب من جهة إعلامية حرة أن تُطلعه على برامجها وموادها الصحفية قبل النشر، فإن حصل ذلك، في ظرف معين، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد تؤدي الأزمة الناجمة عن هذا التدخل إلى استقالة حكومات، ومسؤولين كبار في الدولة.. ويصل الدفاع عن حرية الصحافة (وبضمنها السينما، والتلفزيون، والفيديوهات، والكتب المطبوعة)، في بعض الأحيان، إلى مستويات عالية، ودليلنا على ذلك أن رئيس وزراء الدانمارك رفض، أثناء أزمة الرسوم المسيئة للمعتقدات الإسلامية سنة 2006، توجيه اللوم لصحيفة "جيلاندز بوستن" التي أساءت للإسلام، أو الاعتذار للدول الإسلامية بالنيابة عنها، حجتُه في هذا أن الحكومة لا تتدخل في عمل الصحافة مهما كانت أو ستكون المعطيات، أو النتائج، وقال ما معناه إن الاعتذار أو عدمه حق للصحيفة، وقد اعتذرت الصحيفة، بعد ذلك، بالفعل.
الملاحظة الثالثة: إن وجود الرقابة في بلادنا المتخلفة أزلي، يعود إلى أيام الدولة العثمانية، حيث كان رقيب الصحف يُعرف باسم "المكتوبجي". ونحن الكتاب المعاصرين نحكي عن المكتوبجي بتندر، لكي نضحك، فنتداول حكايتَه مع خبر الثورة الروسية 1917 الذي جاء مكوناً من ثلاثين صفحة عامرة بالمصطلحات الممنوعة من قبيل: شعب، وحرية، وثورة، وصراع طبقي، وبروليتاريا، وبلشفيك، ومنشفيك، ومظاهرات، واعتصامات، واحتجاجات، وحرق دواليب.. وهذا ما أذهل المكتوبجي، فجلس واضعاً أمامه جدول الممنوعات، وراح يختصر، ويشطب، ويحذف، ويعدل، مستأنساً بالجدول، حتى أصبح الخبر مؤلفاً من جملة واحدة نشرتها الصحف في اليوم التالي، وهي: حدثت أمس خناقة حامية في موسكو!
على الرغم من كل هذه الرقابات الرسمية والمخابراتية، كان يحصل ما يمكن أن نسميه (الرقابة اللاحقة)، وهذه لم يكن لها مكاتب، ولا موظفون، بل تحدث ارتجالاً، وبالمصادفة
الملاحظة الرابعة: تسللت، منذ أوائل الثمانينات، أجهزة المخابرات الأخطبوطية إلى دوائر الرقابة نفسها، وحاولت التدخل في عملها، بل والسيطرة عليها، حتى تمكنت من مصادرة بعض النشاطات الاجتماعية التي ليس لها صاحب أصلاً، مثل سكب المفاتيح، والأعراس، وختان الأطفال، وتصوير التيراج، والفوتوكوبي، وصارت تمنع إقامتها دون موافقة من فرع الأمن الجنائي، أو الشعبة السياسية، وفي وقت لاحق أرادت الشرطة المدنية أن يكون لها نصيب في هذه الغنائم، فصدرت تعليمات تتضمن إجراء محاضر تعريف لكل شخص يبيع أو يشتري أو يؤجر أو يستأجر منزلاً أو عقاراً، وصار واجباً أن يذهب طرفا العملية التجارية إلى أحد أقسام الشرطة، ويدفعا إكراميات لعناصر الشرطة لكي ينهوا لهما العمل بسرعة..
الملاحظة الخامسة: على الرغم من كل هذه الرقابات الرسمية والمخابراتية، كان يحصل ما يمكن أن نسميه (الرقابة اللاحقة)، وهذه لم يكن لها مكاتب، ولا موظفون، بل تحدث ارتجالاً، وبالمصادفة، مثلما حصل مع مقالة ياسين رفاعية التي نشرتها جريدة البعث، وكان أحد رجال الدين الملحقين بالسلطة الديكتاتورية يصلي بجوار حافظ الأسد، في إحدى المناسبات، وبعد الصلاة همس في أذنه قائلاً إن تجاوزاً للخطوط الحمر قد وقع في جريدة البعث، وناوله صورة فوتوكوبي لمقالة ياسين، وفي اليوم التالي أمر حافظ الأسد مخابراته بأن يسجنوا كل الصحفيين والموظفين المسؤولين عمّا اعتبره رجل الدين تجاوزاً، حتى إشعار آخر. (القصة معروفة).
الملاحظة السادسة: كانت تحصل في بلادنا المحكومة بدوائر متلاحقة من الرقابات، في بعض الأحيان، أشياء طريفة للغاية. فقد تمكن اتحاد الكتاب العرب من إقناع الجهات المختصة، بأن تنحصر رقابة المخطوطات الأدبية (شعر، قصة، رواية، نقد أدبي) باتحاد الكتاب، وهكذا، أصبح من يريد طباعة كتاب، يذهب إلى مديرية الرقابة في وزارة الإعلام، يسلم مخطوطته، ويأخذ رقماً من الديوان، ومديرية الرقابة تحيل المخطوط إلى اتحاد الكتاب لأجل إبداء الرأي والإعادة.. وهكذا يقوم الكتاب أنفسهم بهذه المهمة (الوسخة) إذ يراقب بعضهم الآخر. والأكثر طرافة من ذلك أن الكتب السياسية والفكرية كانت تحال إلى القيادة القطرية لحزب البعث لرقابتها، وجه الطرافة لا يأتي من كون هذا الإجراء منسجماً مع المادة الدستورية الثامنة التي تنص على أن البعث هو قائد الدولة والمجتمع، بل من أن بعض مؤلفي تلك الكتب مفكرون كبار، بينما ثقافة أعضاء القيادة القطرية الأشاوس لا تتجاوز اطلاعهم على منهاج التثقيف الحزبي، وخطابات الرفيق المناضل. فتأمل يا رعاك الله.