لا بد لكل من يَدْرُس الترجمة أن يسمع، عاجلًا أو آجلًا، بالعبارة الإيطالية Traduttore, traditore (المترجم خائن) حتى ولو كان لا يعرف الإيطالية. فوجوب معرفة هذه العبارة وأن الخيانةَ ملازِمة للترجمة بَداهَةً صارا من المسلَّمات في دستورَ المترجم. وخيانة المترجم تكون إما عن قصد، وإما عن جهل، وقد تكون عن الاثنين معًا (كما فعلت نبيلة إبراهيم في ترجمتها لكتاب إلين رانيلا، "ماضينا المشترك").
وقد تكون الخيانة مدفوعةً بالإديولوجيا الفجَّة. وخير مثال على هذا النوع من الخيانة ما فعله مترجم التلفزيون الرسمي الإيراني عام 2012 بكلمة الرئيس المصري حينذاك محمد مرسي في افتتاح قمة دول عدم الانحياز المنعقدة في طهران. فلما قال مرسي "إن الشعبين الفلسطيني والسوري يناضلان من أجل الحرية والعدالة والكرامة" تحولت هذه الجملة على لسان المترجم إلى: "إن شعبَيْ فلسطين والبحرين يناضلان للحرية." ولما قال مرسي إن الڤيتو، الذي استخدمته كل من روسيا والصين لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن الدولي ضد نظام الأسد، "شلَّ يد مجلس الأمن عن حل الأزمة السورية" تحول هذا القول على لسان المترجم الإيراني إلى: "الڤيتو شلَّ يد مجلس الأمن عن حل أزمات التحولات الشعبية." كذاك حرَّف المترجمُ قولَ مرسي "وحدة المعارضة السورية ضرورة" إلى: "نأمل ببقاء النظام السوري المتمتع بقاعدة شعبية" (المصدر: شبكة الجزيرة الإعلامية).
لكن حتى مع صفاء النية، تظل الترجمة عمومًا طريقًا وعرًا لا يخلو من مزالق أحيانًا. وتزداد هذه الوعورة والمزالق حين تكون الترجمة فوريةً، إذ يَعْتَوِرُها ما يَعْتَوِرُ الكلامَ الشفوي من زلات اللسان، فضلًا عن حاجة المترجم الفوري إلى الثقة بالنفس في موقف شديد التوتر والحساسية، وإلى حضور البديهة التي تستدعي من الذاكرة الكلمةَ الصحيحةَ أو العبارةَ المناسبةَ في الوقت المناسب، كي ينقل الرسالةَ المطلوبةَ من المرسِل إلى المتلقي بكفاءة ودقة وسرعة. وبهذه الصفة، تكون وظيفة المترجم كوظيفة ساعي البريد. لكن إذا أخفق المترجم في إبلاغ الرسالة المقصودة، قد يتسبب إخفاقه في كارثة، أو قد يؤدي إلى مواقف طريفة (وهو ما سأتحدث عنه هنا).
***
تتداول الأوساطُ الأكاديميةُ أسطورةً مفادها أنه في أعقاب إنذار پوتسدام خلال الحرب العالمية الثانية (الذي يقضي باستسلام اليابان بلا شروط ونزع سلاح القوات المسلحة اليابانية، إلخ)، رد رئيس الوزراء الياباني آنذاك على الإنذار بكلمة "موكوساتسو" (أي، لا تعليق)، لكن الصحافة الغربية زعمت أن الزعيم الياباني قال إنهم "سيتجاهلون" هذا الإنذار. وهذه الترجمة الخطأ أدت، بزعم مُروِّجي هذه الأسطورة، إلى قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي في شهر آب سنة 1945 بالقنابل الذرية. لا شك أن من يُروِّج لهذه الأسطورة يريد أن يضرب لنا مثلًا على خطورة الترجمة ليبين كيف أن خطأً لغويًا واحدًا أدى إلى كارثة إنسانية كان بالإمكان تفاديها لو أن المترجم أتقن صنعته.
كان جِمي كارتر حاكمَ ولاية جورجيا الأمريكية حين زار بولندا سنة 1973، وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده هناك، كان يرافقه مترجم أمريكي لا يتقن البولندية. فلما قال كارتر، "غادرتُ الولايات المتحدة صباح هذا اليوم" قال المترجم على لسانه، "غادرتُ الولايات المتحدة إلى غير رجعة!" لم تكن هذه كارثة الترجمة الكبرى ولا الوحيدة في ذلك المؤتمر. إذ لما قال كارتر، "جئت لأطَّلِع على آرائكم وأفهم رغباتكم بشأن المستقبل" تحولت هذه العبارة الدبلوماسية البريئة إلى مُراوَدةٍ مفضوحةٍ على رؤوس الأشهاد: "أنا أشتهي أجساد البولنديين!" تسبب هذا الخطأ في كارثة دبلوماسية، وأصبحت عبارة كارتر المشوَّهة هذه مناسَبَةً للتندُّر في الصحافة البولندية.
لكن ما فعله مترجم كارتر في اليابان كان على النقيض من ذلك. فبعد أن انتهت ولاية كارتر الدستورية، وغادر البيت الأبيض سنة 1981، زار إحدى الجامعات اليابانية وألقى فيها خطابًا استهلَّه بنكتة. لم يدرك كارتر أن النكتة غير قابلة للترجمة إلى اليابانية، ولكن مترجمه كان نبيهًا، فقال للجمهور، "الرئيس كارتر قال نكتة، لذلك ينبغي لكم أن تضحكوا جميعًا." وبالفعل قَهْقَه الجمهور، وبذلك تحققت غاية النكتة (الإضحاك) وأكثر، وإن بوسيلة مختلفة. بل إن كارتر لم يتوقع أن يقهقه الجمهور بتلك الحماسة، ولم يفهم ردة فعل الجمهور إلا فيما بعد.
وقد قرأتُ ذات يومٍ أن مترجمًا أمريكيًا في الأمم المتحدة كان يترجم من الإنجليزية إلى العربية. فلما ذكر المتحدث عبارة Under Secretary (أي، معاون الوزير، أو وكيل الوزارة)، ظن المترجم أن المكافئ العربي المناسب هو "الوزير السافل!" وهذه ترجمة شبه حرفية لأن من معاني under "تحت" أو "أسفل." ويبدو أن المترجم كان يترجم كلمةً مرتجلةً، لأن بروتوكولات الأمم المتحدة تقضي بأن يَطَّلِع المترجم سلفًا على الخطابات التي سيلقيها المتحدثون، وأن يُراجِع كبارُ الخبراء ترجماتهم، منعًا لحدوث هذه الكوارث المضحكة أو الخَطِرة.
***
وهناك أعمال أدبية كثيرة تبيِّن أن اللغة سلاح قوي بيد من يجيد استعماله. ومن أشهر هذه الأعمال مسرحية "العاصفة" التي ألَّفها شيكسپير سنة 1610. ففيها يخاطب كاليبان، ابنُ الجزيرةِ المستعمَرةِ الأصليُّ، المستعمِرَ پروسپرو الذي فرض عليه لغته:
"علَّمْتَني لغتَك، وفائدتي من ذلك
أنني أعرف كيف ألعنك.
ليتك بالطاعون الأحمر
لأنك علمتني لغتك!"
لم يكتفِ كاليبان بلعن سيده، بل حاول اغتصاب ابنته ميراندا انتقامًا من أبيها. وقد رأى كثيرٌ من أدباء العالم الثالث، ولا سيما في إفريقيا والبحر الكاريبي، في كاليبان تجسيدًا للمستعمَر الذي يستخدم لغة المستعمِر سلاحًا فعالًا ضده. ومن هؤلاء نذكر تابان لو ليونغ، الشاعر والأكاديمي الأوغندي، الذي يقول في قصيدة ساخرة:
قال كاليبان: علَّمْتَني اللغةَ
فماذا أفعل بها
سوى أن ألعنك؟
(بالمناسبة، أنا أيضًا اسمي تابان،
وهو قريبٌ جدًا من كاليبان
وعُلِّمتُ اللغةَ
فماذا أفعل بها
سوى أن ألعن، بطريقتي؟)
وفي مسرحية "ماتَ سِزْوي بانزي" لأثُول فيوغارد من جنوب إفريقيا، يطلب برادلي، رئيس العمال الأبيض في معمل سيارات فورد، من ستايلز أن يتولى الترجمة لزملائه السود حين يزورهم هنري فورد نفسه في اليوم التالي. ولكن ستايلز يستغل الفرصة للسخرية من برادلي، الذي لا يعرف لغة الخوسا، ومن سياسة الفصل العنصري:
- "قل لهؤلاء الغِلْمان بلغتكم إن هذا يومٌ عظيمٌ جدًا في حياتهم".
- "أيها السادة، إن هذا الأحمق العجوز يقول إن هذا يوم جهنمي في حياتنا".
ضحك الرجال.
- "يسرُّهم جدًا سماعُ ذلك، سيدي".
هنا نلحظ أن كلمة القدح "الغِلْمان" (التي يستخدمها البيض من كل الفئات العمرية لمخاطبة السود بغض النظر عن أعمارهم) تحولت إلى "السادة." أي أن ستايلز "طهَّر" عبارة برادلي بإفراغها من عنصريتها المهينة الموجهة نحو السود، وفي الوقت نفسه حقنها بإهانة مضادة حين وصف رئيس العمال بأنه مجرد أحمق عجوز. وحين يطلب منه برادلي أن يقول للعمال أن يحاولوا أن يُغَنُّوا ويبتسموا ويبدوا سعداء وهم يعملون ليُعطوا السيد هنري فورد انطباعًا إيجابيًا عن زنوج جنوب إفريقيا:
- "قل لهم، يا ستايلز، إن عليهم أن يحاولوا أن يعطوا السيد هنري فورد انطباعًا بأنهم أفضل من أولئك القرود في بلاده، أولئك الزنوج في هارلمِ الذين لا يعرفون إلا الإضراب تِلْوَ الإضراب."
وبدلًا من أن يطيع ستايلز رئيسه، يقول:
- "أيها السادة، يقول إنه ينبغي لنا حين يأتي السيد هنري فورد أن نتذكر أننا قرود من جنوب إفريقيا، ولسنا قرودًا أمريكيين. فقرود جنوب إفريقيا مدرَّبون تدريبًا أفضل..."
هكذا يصبح من يمتلك ناصية اللغة سيِّدًا ساخرًا يفضح سياسة الفصل العنصري، ومن لا يملكها مَسُودًا يُسْخَر منه ومن منطقه الذي يحاول تجميل الواقع العنصري وتزييفه. ومن مفارقات القَدَر الدالة على انقلاب الأدوار ما حدث في الحقيقة، لا في عالم الأدب الخيالي، للأكاديمي والمترجم المصري الراحل سمير سرحان، رحمه الله. وقد حدث هذا حين استُدعي سرحان لمرافقة أحد كبار المسؤولين في جامعة الدول العربية إلى دولة إفريقية. ولما نزلا من الطائرة، ظن وفد الاستقبال أن سرحان هو موفَد الجامعة العربية، فأركبوه سيارةً فاخرةً انطلقت به فورًا، بينما أُرْكِبَ الضيف الرسمي سيارةً عاديةً سارت وراء السيارة الأولى والضيف يصرخ مستنكرًا، "أنا الرئيس. ده المترجم ابن الـ...!" يقول سرحان، حسبما روى لي أحد طلابه، إنه قرر أن يلعب دور "الرئيس" وترك الضيف الرسمي يأخذ دور المُرافق. وهذه، لَعمري، مفارقةٌ أغربُ من الخيال. ففي ذلك اليوم، انتصف سرحان – بمساعدة القَدَر – من كل من يحطُّ من شأن المترجم!