طبقات النزاعات الأهلية في سوريا

2024.08.12 | 05:42 دمشق

الباب
+A
حجم الخط
-A

يعرف متابعو اليوميات السورية الآن، وقد صاروا قلة، أن قدراً وافراً من الرصاص بات يُطلق في صدامات موضعية تحصل بين أهالي قريتين متجاورتين، أو بين عائلتين من بلدة ما، أو بين سكان مقيمين وآخرين نازحين عندهم من منطقة ثانية. وحتى لو تطور الأمر إلى اشتباكات فصائلية فإن أصله مشاجرة بدأت فردية، ثم تصاعدت باستنصار كل طرف لعائلته ولعشيرته الأقربين ثم للقوة العسكرية التي تنظم أبناء هذا الانتماء أو يشكّل أكثرها.

يبدو هذا أوضح في مناطق وجود «الجيش الوطني» في الشمال، حيث تتشتت القوى، لكنه يحدث أيضاً في مناطق تقع تحت حكم سلطات مركزية؛ كإدلب تحت هيمنة «هيئة تحرير الشام»، وشمال شرقي سوريا في ظل «الإدارة الذاتية...»، ومناطق سيطرة نظام الأسد، وأخيراً في السويداء.

يحيل هذا إلى أمرين أساسيين؛ أولهما ما بات معروفاً عن ضعف الشعور الوطني بين السوريين أصلاً، وثانيهما ما خلّفته سنوات الصراع الطويلة من الالتفاف حول الروابط الأصلية التي ابتدأت بالطائفة والعرق، وعبَرت القبيلة والمدينة والمنطقة، لتصل إلى العائلة. مع ما عناه ذلك من تذرّر النزاع الكبير، رغم استمراره، إلى نزاعات أصغر تزداد ضيقاً، تتحفز بقلة الموارد وغياب أفق باتجاه المستقبل وانتشار السلاح وضعف المؤسسات.

لا يخيب هنا أمل من راهنوا على شعب سوري واحد فقط، وهم أول من تجرّعوا المرارة؛ بل أيضاً رجاء من أراد تثبيت الصراع عند مستوى أهلي معين، طائفي أو عرقي، حين صار يرى أثر الحريق «في داخل البيت»، صداماً «بين بعضنا»

لا يخيب هنا أمل من راهنوا على شعب سوري واحد فقط، وهم أول من تجرّعوا المرارة؛ بل أيضاً رجاء من أراد تثبيت الصراع عند مستوى أهلي معين، طائفي أو عرقي، حين صار يرى أثر الحريق «في داخل البيت»، صداماً «بين بعضنا» كعربٍ سنّة مثلاً، أو جمهورِ ثورةٍ تجمّع في الشمال بفعل التهجير، أو سكان مخيمات يعانون من الظروف المعاشية القاسية نفسها ويجدر بهم التضامن.. إلخ.

ورغم أن ذلك يبدو بعيداً الآن؛ فإن من شأن تذرّر النزاعات هذا أن يصب الماء في طاحونة دولة المواطنة الحديثة طالما أن أحداً لن يستطيع أن يقف بالصراع عند الحد الذي يريد، ويمنع تفكك صفه في احتكاكات بينية تزداد ميكروية. وهنا يمكن أن تستعاد مفاهيم الفردية وعدم التمييز أمام القانون لا من مداخلها الثقافية التي باتت غير مؤثرة في المجموع، بل من جهة أنها ضرورات للعيش المشترك على أي نطاق كان.

في أصل المسألة دأب خطاب الثورة على نسبة الشرور المطلقة إلى النظام الذي يُقصد به حافظ الأسد بدرجة شبه حصرية. إذ يقول نخبويون إنه عمل على تحطيم الدولة الحديثة التي كانت ناشئة في سوريا بتعزيز الروابط الأهلية؛ الطائفية والمناطقية والعشائرية. فيما ترى أصوات أهلية أنه سعى، على العكس من ذلك، إلى جمع السلطة في يده، وعبر أجهزته، مُضعِفاً الزعامات المحلية التي قد يشكّل تأثيرها على الناس خطراً على سلطته.

والذي يظهر أن الأسد، عندما وصل إلى السلطة في العام 1970، كان في طور التحرر من بقايا الآثار التحديثية التي تركها فيه انتماؤه إلى حزب البعث العربي «الاشتراكي»، والانفكاك عن الإيديولوجيا، التي أصبحت بالنسبة إليه البقاء في السلطة إلى الأبد ثم توريثها. ولا سيما بعدما عايش عن قرب نتائج نزعة التحديث التي قادها رفاقه منذ استيلائهم على الحكم في العام 1963، وخاصة بعد انقلابهم اليساري الداخلي في شباط 1966.

عبر السنوات تعلم الأسد أنه ليس هناك طريق ذهبي للاحتفاظ بالسلطة، ناهيك عن أن يكون طريقاً إيديولوجياً. وفي مسألة الانتماءات الأهلية، التي جاءت «الحركة التصحيحية» جزئياً لاسترضائها ولمداواة جروحها الطازجة، سلك وفق معيارين متناقضين، ودرجات من المزج بينهما حسب الوضع.

فمن جهة أولى وعى أن محاربة الانتماءات الأهلية في مجتمع ما تزال ذاكرته القريبة حافلة بالبنى التقليدية ضربٌ من الانتحار. كما أنه لاحظ أن إدارة كل شيء بنفسه ستشتت طاقته التي يفضّل تركيزها في المسائل الخارجية والكبرى، وتغرقه في التفاصيل. فعمد إلى نظام «الإقطاعات» غير المرئي لكن المعروف في كواليس الحكم في عهده، وهو أن يضمن له المسؤول، أو الوجيه أو الشيخ أو شيخ العشيرة أو من يشبههم، ولاء مَن وراءه، مقابل فتات من السلطة والمال تعزز مكانته بين قومه. وأخيراً دفعه السياق، الذي أنتج تعزيز سلطة شقيقه رفعت وأقربائه الموثوقين وطائفته، إلى «تفهم» سعي رجاله إلى تقريب أفراد من دوائرهم الأهلية، العائلية والمناطقية والطائفية، تعييناً وترفيعاً واستثناءات وعقوداً مع القطاع العام أو استثماراً في القطاع الخاص، وشجّع على هذا.

ومن جهة ثانية كان على كل ذلك أن يكون منضبطاً بألا يمتلك أي من هؤلاء، في مواقعهم المختلفة في المخابرات والجيش والحكومة والمضافة والجامع، قوة كافية قد تدفعه إلى التمرد بالاعتماد على ارتباط أصلي تكنّه جماعته له ويتجاوز ولاءها للأسد الذي كان عليه، والحال هذه، أن ينتظر موت الزعامات الأهلية العتيقة التي بنت موثوقيتها قبل عهده، مع معاملتها بالترغيب والترهيب، ثم صناعة زعامات بديلة ركيكة عجنها بيديه وخبزتها فروع أمنه. وفي هذا لم يُضعف الأسد مراكز القوى التقليدية فحسب، كمشايخ الدين وشيوخ العشائر ورؤوس العائلات والوجهاء، بل أيضاً بنى حديثة كالنقابات والأحزاب التي كان قادتها رهن الرقابة اللصيقة وتحت خطر الاستبدال بأشخاص أكثر طواعية حتى الذوبان في فلك «قائد المسيرة».

لم يكن الأسد مهتماً بنا إلا بوصفنا رعايا. ولأن مراقبة هذا العدد الهائل من الخراف أمر شاق فقد كان يفضّل تعهيدنا لرعاة محليين يضمنون له انضباط القطيع وثغاءه حسب النوتة. فإن ظن راع معتدّ أنه شريك في الأمر فقد حكم على نفسه بقضاء بقية العمر في عتمة بيته، على الأقل.