لا تُظهر المراسلات التي تم الكشف عنها قبل أيام بين إدارة شؤون الشرق الأدنى وشمال إفريقيا في الخارجية البريطانية مع سفارة لندن في دمشق، حول حيثيات قبول بشار الأسد في العام 1989 كطالب دراسات عليا في طب العيون، أي تفاصيل مختلفة تخصه، فهي كورق رسمي تستوفي معايير العمل الداخلي، ولا يُلحظ في مضمونها أن البريطانيين قد قاموا بإجراءات استثنائية تخصه كابن للرئيس، إذ لم يستجب صاحب القرار في الوزارة لرغبة السفارة بأن يرسل المجلس الثقافي البريطاني مندوباً عنه لتقييم حاجات بشار، بل اكتفى بالقول بأنه لن يعترض "على دراسة بشار في هذا البلد بشرط أن يحصل على تأشيرة بالطريقة المعتادة. تتمثل متطلبات وزارة الهجرة للحصول على تأشيرة طالب في الأساس بأن يمكن للطالب تحمل تكاليف الدورة والإقامة، حيث يتم قبوله من قبل المؤسسة التعليمية، وأنه يعتزم العودة إلى بلده الأصلي عند اكتمال الدورة" وفي مكان آخر يقول: "قد يبدو من ضيق الأفق رفض قبول الأسد الشاب لأنه ابن (حافظ الأسد). ومثل هذا الموقف يمكن أيضاً أن يعقّد من دون داع إعادة تأسيس علاقاتنا في نهاية المطاف".
ما لا ينجح ناشرو المراسلات في إخفائه وتشير له المراسلات هو أن الدولة السورية كلها كانت تقف على رجل واحدة من أجل أن يحصل ابن حافظ الأسد الثالث على أفضل شروط لإكمال تعليمه!
تؤدي هذه المراسلات الغرض من نشرها من خلال إبلاغ السوريين بأن البريطانيين لم يكن لهم أي دور في تأهيل ابن الرئيس علمياً على الأقل، فهم لم يعاملوه إلا كطالب سوري يريد أن يتقدم بطلب الحصول على الفيزا، بعد الحصول على القبول الجامعي!
لكن ما لا ينجح ناشرو المراسلات في إخفائه وتشير له المراسلات هو أن الدولة السورية كلها كانت تقف على رجل واحدة من أجل أن يحصل ابن حافظ الأسد الثالث على أفضل شروط لإكمال تعليمه!
وفي الحقيقة لم أتذكر وأنا أدقق هذه الحيثيات سوى ما يجري داخل كل العائلات السورية حين ينتهي أحد أبنائها من دراسة الثانوية، ويتوجه صوب دراسة الجامعة من اضطراب، وقلق على مصيره، يتصاعد بانتظار نتائج المفاضلة العامة، يتكرر بعد تخرجه وتوجهه لإكمال دراسته في إحدى الجامعات، حيث تتورم عقول الأهل وهم يحاولون تقديم كل الثبوتيات المطلوبة من أجل حصول ابنهم أو ابنتهم على الفيزا!
لكن الفرق الذي لم يغب عن أي شخص قرأ المراسلات هو أن العائلات السورية التي كانت تقدر على إرسال أحد الأبناء للخارج من أجل الدراسة، كانت تبدو متروكة لمصيرها بين أيدي الموظفين القنصليين الذين لا يتركون شاردة أو واردة في ملفات الطلبة طالبي تأشيرات السفر، بينما كان أمر بشار الأسد مصروفاً بين المكاتب العالية في الدولة البريطانية، وأن المشكلة التي كانت تقف بينه وبين حصوله على الفيزا هي إشكالات عرضية، يجب ألا تعترض طريقتهم في التودد لآل الأسد، حيث يرد في سياق المراسلات قول الخارجية: "من ناحية أخرى، ليست هناك حاجة للخروج عن طريقنا للتودد إلى عائلة الأسد من خلال ترتيب زيارة خاصة من المجلس الثقافي البريطاني في عمان. السوريون هم الذين أغلقوا المجلس في دمشق عام 1980".
يمكن بشكل أو بآخر اعتبار أن نظام حافظ الأسد هو العائلة التي كانت تلاحق مصير ابنها، وهو مصير مكفول بحكم كونه ابن الرئيس، لكنه يحتاج للإطار الذي يلتف حول صورته، ومن أجل سبك معدنه وزخرفته لا بد من بذل الجهود وجعل دراسته قضية فوق عادية، وهذا ما يظهر في سياق المراسلات ذاتها، وبينما تم إخضاع بشار الأسد للالتزام بالقواعد المفروضة على أي طالب يرغب في إكمال دراسته، في إحدى الجامعات البريطانية، والتي يمكنه بحكم وضعه أن يلبيها بأسهل من السهولة ذاتها، تنتهي المراسلات، بالإيحاء الواضح للقارئ بأن إدارات الحكومة البريطانية آنذاك مارست أعلى درجات الحيادية المهنية في هذا المفصل من تاريخ بشار الأسد، وأن الرجل الذي قام بارتكاب أفظع الجرائم بحق السوريين خلال السنوات الماضية جاءها بشكل نظامي ودرس فيها بضع سنوات، تعرف فيها على زوجته التي ستصبح سيدة سوريا الأولى أي شريكته في القتل والإجرام والنهب، ثم عاد إلى بلده بعد مقتل أخيه في حادث طريق المطار الشهير، حيث يتم تأهيله ليرث أبيه، من خلال حزب البعث كما صرح هو قبل فترة وجيزة، من خلال النظام ذاته، على أرض الواقع، أي كل مؤسسات الحكم التي تبدأ من القصر ومكاتبه الخاصة والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية وأخيراً وزارة التعليم العالي.
البريطانيون والفرنسيون ومن خلفهم الأميركيون والروس وغيرهم، كانوا شركاء فاعلين في سياق تأهيل ابن الرئيس ليكون وريث دور والده المافيوي
لكن مراسلات التاريخ الحقيقية، أي تلك الحوارات التي تجري حالياً بين الوقائع التاريخية المعلنة وبين مسارات الواقع، والتي أفضت إلى ما نحن عليه الآن، تكشف وبما لا ريب فيه إلى أن البريطانيين والفرنسيين ومن خلفهم الأميركيون والروس وغيرهم، كانوا شركاء فاعلين في سياق تأهيل ابن الرئيس ليكون وريث دور والده المافيوي، خادم مصالح الجميع، ولم يتم المضي به إلى كرسي الحكم دون مباركاتهم، والتفاصيل عن هذه الشراكة الآثمة ليست مخفية بل متاحة، ويتذكرها جميع من عاصرها، وما استقبال جاك شيراك له كزائر رسمي لا يحمل صفة رسمية في قصر الإليزيه الخارج عن البروتوكولات المعتادة في تشرين الثاني 1999، سوى تفصيل صغير في مسار طويل هادن فيه الغرب الديكتاتورية الأسدية طالما أنها كانت تلتزم بخدمة مصالحه المعلنة والسرية، كانت ملامحه تكتمل يوماً بعد يوم، فتمر بجحفل المعزين في قصر الشعب يوم جنازة أبيه واجتماعه بمادلين أولبرايت، وتصل إلى التغاضي عن جرائمه الأولى في اغتيال ربيع دمشق، ومناكفته للإرادة الغربية بما يخص غزو العراق، ودعمه للفصائل المتشددة هناك، ودوره في اغتيال رئيس وزراء لبنان الشهيد رفيق الحريري، والعودة من جديد إلى البداية مع قيام ساركوزي بإعادته إلى المجتمع الدولي في تموز العام 2008.
الأمر الوحيد الذي يجعل السوريين يغضون النظر عن جرائم الدول الغربية الأخلاقية بحقهم إنما هو موقفها المعلن حالياً من هذا النظام، لكن هذا لا يجعلهم ينكرون احتمال أن المراسلات ستكشف بعد سنوات أو عقود، عن أن إعادة تأهيل الأسد قاتل شعبه في المحافل الدولية حالياً إن تمت، لم تكن أمراً صعباً، طالما أن لغة المصالح القذرة بكلماتها وجملها ومؤلفاتها الكبرى لا تدون في السجلات الدبلوماسية، ولا تُرسل في البريد الرسمي للسفارات.